تصنيفات

انظروا عمن تأخذون دينكم

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:

فقد كثر تداول مقطع مصور في الأيام الماضية بعنوان: « طاقة المعجزات وسحر الخلوات» وإن كان تسجيله تم- فيما يبدو – قبل سنة تقريبا. ولولا أن المتحدث تناول موضوع ليلة القدر -التي يترقبها المسلمون في هذه الليالي الفاضلة – لما اقتطع ُت من وقتي ووقت القارئ للرد على ما ورد فيه من
مغالطات شرعية ومخالفات اعتقادية تكدر علينا صفو هذا الشهر إلا بعد انقضائه.
ولعلي – حفظا لأوقاتكم – أوجز الرد في النقاط التالية:

♦️أولا: أن الكلام في العبادات وأوقاتها وصفاتها وفضائلها من علوم الشريعة واختصاصها، ولا يمكن أن ُيقبل قول القائل فيها إلا بدليل صحيح، وقد خلا طرح المتحدث – في الواقع – من أية دليل، فهو في 48 دقيقة من الكلام المتتالي لم يذكر حديثا واحدا عن النبي ‎ﷺ ، ولا ساق أثرا عن صحابي أو تابعي جليل، ولا أورد قولا لمفسر له عناية بالمأثور، بل ولا استشهد بقول عالم من علماء المسلمين من المتقدين أو المتأخرين! وإنما استدل بآيات قد أبعد وأغرب في تأويلها، وأقام معانيها على النظر
الشخصي والآراء ال ُمحدثة.

♦️ثانيا: أن محاور المقطع الرئيسة والفرعية لم ُتبن على القواعد الشرعية، بل تأثرت بالمفاهيم الفلسفية ال ُروحانية، وهذا ظاهر في التسلسل الفكري للمعاني المتضمنة، وفي اللغة المستخدمة في الطرح، وسُيلاحظ المشاهد قلة المصطلحات والتعبيرات الشرعية وتكرار المصطلحات الغامضة والغريبة – والتي أكاد أجزم أن كثير من المشاهدين لا ُيدركون أبعادها الخطيرة، من ذلك: حديثه عن “مسار التشافي”، و”رسائل الأرقام”، و”فضاء المعجزات”، و”الاحتمالات”، و”النسخ الإنسانية”، و”مسار الاتصال”، و”الطاقة النورانية”، و”الطاقة السامية”، و”التجليات”، و”مسارات الإله”، و”الإيجو”،
و”الطاقة الظلامية”، و”طاقة القرآن”، و”الكارما” وغيرها كثير. إن سياق هذه المصطلحات واجتماعها في الطرح يدل – بوضوح – على المصدر الذي ينهل منه المتحدث. وإن كان المقام لا يتسع لبيان معانيها ووجه بطلانها، إلا أني بسط ُت الكلام فيها في غير هذا الموضع.

♦️ثالثا: أن المتحدث تجرأ على كلام الله بفهمه ورأيه، دون استكمال لأدوات التفسير وشروطه، وقد قال النبي ‎ﷺ في الحديث الحسن: [ من قال بالقرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار ] ، وأخبر ‎ﷺ أنه يخشى على أمته من ثلاث، وذكر منهم: [ رجال يتأولون القرآن على غير تأويله ] وقد تجلى ورع أبي بكر رضي الله عنه عن القول على الله بغير علم في قوله: ( أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في كتاب
الله ما لم أعلم؟! ) أما هذا: فنجده يقول في قول الله تعالى وبلا تردد: (أَلا َله اْلَخلُق َواْلأمر ) بأن الخلق: هو العالم “الطاقي” والأمر: هو العالم المادي! وفي قول الله تعالى: ﴿تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر﴾ [القدر: ٤] أن “الروح” هي الطاقة الربانية النورانية السامية! وفي قوله تعالى: ﴿يُلقِي الرّوحَ مِن أَمرِهِ عَلى مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ ﴾ [غافر: ١٥] َأن “الروح” حبل صلة بين الله وبين العبد لإمداده بالطاقات والمسارات التي تناسبه! وليت شعري من الذي سبقه بهذا التفسير من جهابذة العلم وأئمة السلف ؟ أم أنه خفي على هؤلاء كلهم هذا العلم وظهر له؟ فأما الآية الأولى فقد قال ابن كثير في تفسيرها: ” له الملك والتصرف”، وقال البغوي: “له الخلق لأنه خلقهم وله الأمر ، يأمر في خلقه بما يشاء” ولم يقل أحد بأن الخلق لا يكون إلا للمحسوس، أو أن “الأفكار” ليست “خلقا” كما زعم المتحدث -بل إن الإنسان وأفكاره وأفعاله كلها من خلق الله، وقد قال الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُم وَما تَعمَلونَ﴾ [الصافات: ٩٦] . وأما الآية الثانية: فقال فيها الطبري: “تنـزل الملائكة وجبريل معهم”، وقال ابن كثير: “وأما الروح فقيل: المراد به هاهنا جبريل عليه السلام ، فيكون من باب عطف الخاص على العام. وقيل: هم ضرب من الملائكة”. وقد استنكر المتحدث هذا التفسير – للغيبيات التي لا يدركها العقل – بعقله قائلا: “وكيف يدور جبريل على الناس كلهم؟” ونسي أن الغيب لا ُيقاس على الشهادة، وأن خلق الملائكة ليس كخلق البشر، ففي مسند الإمام أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ( رأى رسول الله ‎ﷺ جبريل على صورته، وله ستمائة جناح، كل جناح منها قد سد الأفق ). وأما الثالثة: فالروح التي يلقيها الرب ‎ﷻ هي “الوحي” الذي ينزله على أنبيائه، به قال ابن جرير وابن كثير والقرطبي والبغوي والسعدي وغيرهم، ولم يقل أحد – ممن يعتد بقوله من أهل التفسير – أن الروح صلة خاصة بين كل عبد وربه، فضلا عن كونها حبل لإمداد العباد بالطاقات.

♦️ رابعا: أن المتكلم لم يتحدث عما يسن فعله في ليلة القدر التي استثمارها هو موضوع طرحه ، بل ذکر أفعالا وأقوال مبتدعة لم يرد عليها دليل من كتاب ولا سنة، ومن ذلك: الصوم عن الكلام، إذ ليس في ديننا ما يدل على مشروعيته، والدعوة للصمت تعبدا بدعة في الإسلام، بل في صحيح البخاري نهي
صريح من النبي ﷺ لمن ترك الكلام على سبيل القرية. ومنه: وتخصيص قراءة السور والآيات بفضائل
معينة، كسورة مريم لطلب الإنجاب، والزخرف لطلب المال، ومنه: التزام “الأوراد النورانية” وتخصيص
قراءة الآيات التي فيها ذكر للنور في ليلة القدر، وغير ذلك مما لا يشرع فعله. وفي المقابل أغفل
المتحدث الحث على الاعتكاف في المساجد أو إحياء العشر بالتهجد، أو تكرار الدعاء المخصوص ( اللهم
إنك عفو تحب العفو فاعف عني ) أو غير ذلك مما ثبت عن النبي ﷺ وأصحابه قوله أو فعله.
ومن المعلوم أن العبادات توقيفية، لا يجوز التقرب إلى الله إلا بما شرعه ، وأن تخصيص الفضائل
والمنافع للسور والآيات المعينة لا يكون إلا بالدليل، والتخصيص بلا مخصص من الشرع بدعة، وقد قال
النبي ﷺ : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ] وقال : [ كل محدثة بدعة، وكل بدعة
ضلالة، وكل ضلالة في النار ]

خامسا: جعل الطريق إلى الله شفرات وأسرار، لا يدركھا عوام الناس، فهو يقول عن الله لا مثلا:
“يقول لك هي (سیستم) ستأخذها بأقل من غيرك ب .۹٪ من الجهد.. افهم قوانيني، افهم صراطي
المستقيم، افهم مساراتي وستأخذ”، فالذي لا يفهم هذه القوانين” المزعومة بل يجتهد في
العبادة على سنة رسول الله ﷺ سيسوى أجره وتحصيله بمن يفعل عشر أعماله ممن يدرك تلك
“السيستم”، غير أننا لا نجد في السنة الثابتة عن رسول الله شيئا عن هذه القوانين”! بل نجد أن
النبي ﷺ لم يخبر عن هذا “السر” المهم عندما سألته عائشة رضي الله عنها * عن ليلة القدر: إن
وافقتها فيم أدعو ؟ فقال: [ قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني ] ولم يقل: اقرئي الأوراد
أو السور “النورانية”، أو استحضري “مسار الاتصال”، أو أدركي استحقاقك للمعجزات، أو ادعي بخوارق
العادات
وفي الحديث الصحيح: ( فمن رغب عن سنتي فليس مني .
بل نجد إن المتحدث يزهد بالعمل والجهد، ويشيد ب “المشاعر” الفضفاضة الغامضة، فيقول فيمن
سيحقق مراده في ليلة القدر: إن الله يخبرنا أنه “ليس بالعمل.. إذا عندك مشاعر سلام وتعيش حالة
سلام وعندك حالة يقين سأبهرك .. هو يقول: ( سلام هي حتى مطلع الفجر ) فيها مشاعر سلام
عالية جدا، تهدم صنم كبير جدا هو إنك لا بد أن تقاتل في الحياة”، بل يقرر أن ليلة القدر ليست خاصة بالعشر الأواخر من رمضان، بل “ممكن عندك في السنة أربع – خمس – عشر – خمسة عشر ليلة هي ليلة قدر، وفيها تحول كبير في أقدارك وفي مسيرتك”

أخيرا: وأشدها وأخطرها، وهي العبارات المشتبهة والمعاني الملتبسة في ثنايا الكلام، ومنها:

١. القول بأن الاستقامة توصل -ولا بد – إلى “الكرامة”، أو الخوارق التي عبر عنها بالمعجزات، وهذا موافق لمقالات الصوفية مخالف لمنهج السلف الذين كانوا – مع إقرارهم بوجود کرامات الأولياء- يحذرون من الالتفات إليها، والسعي لها، أو جعلها مقياسا للصلاح وموافقة الحق، ولذلك اشتهرت عنهم مقولة: ( كن طالبا للاستقامة لا طالبا للكرامة ).

٢. الدعوة إلى الاعتقاد بالاستحقاق على الله، وأن الإنسان عندما يوقن باستحقاق المعجزة
فسيكون له مسار مختلف”، وهذا يتعارض مع التذلل لله والافتقار إليه واتهام النفس ولومها الذي ينبغي أن يكون عليه حال العبد، فالإنسان في الحقيقة- لا “يستحق” شيئا على الله، وكل ما يهبه الله للعبد تفضل وتكرم منه سبحانه، قال رسول الله ﷺ : ( لن يدخل أحد منكم عمله الجنة ] قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال [ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه بفضل ورحمة ] فنفى عليه الصلاة والسلام أن تكون الجنة عوضا يستحقه العبد على عمله، بل هي رحمة وتكرم بسبب إحسان العمل كما قال تعالى: ( تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون ) وفرق ظاهر بين المكافئة والاستحقاق، وبين الرحمة التي تحصل بسبب الطاعة. فنسأل الله أن يعاملنا بما هو أهله لا ما نحن أهله

٣. الخلط في مفهوم القدر، وهو باب دقيق شائك لا يصح طرحه ومناقشته من غير المتخصص المتمكن، حيث يبدو من المتحدث اتهام لمثبتي القدر بالجبر، مع تأثره بقول القدرية القائلين بالجذب، فهو يستخدم مصطلحاتهم كما في قوله: في ليلة القدر ” تدخل مسار جديد، نسخة جديدة احتمال جديد”، وقوله: الأفكار طاقات تتحول لمحسوسات، وقوله: “يقول الله ( يمحو الله ما يشاء ويثبت ) .. ستغير؟ تفضل”. وقوله: “ليلة تكتب فيها قصتك من جديد: تعبر فيها
النسخة الجديدة لمسار جديد، أنت الراوي لكان يا ما كان”، مما يفهم منه أن الإنسان يكتب قدر
نفسه، أو أن مبتدأ الأقدار من عنده.

٤. نسبة الرزق للنفس. وأن سببه أفكار الإنسان لأنها – بزعمه طاقات تتحول إلى مادة، فيقول: ” الرزق هذا ظهر في حياتك بدايته فكرة”، والحق أن الله ( يرزق من يشاء بغير حساب ).
٥. القول بأن للأرقام رسائل. وفي الكون رسائل من الله للإقدام والإحجام، وهذا ضرب من ضروب التطير الذي كان يفعل في الجاهلية، فإذا طار الطير المزجور يفن كان علامة – أو رسالة – للإقدام والعكس بالعكس، وقد قال : [ من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك )

٦. اللبس في حقيقة الربوبية والعبودية وعلاقة الخالق المخلوق، وتسرب بعض العبارات ذات
النفس الصوفي الباطنيه من ذلك قوله:

-نحن كمخلوقات عندما تمتد لمسار الاتصال مع الله فإننا نأخذ من الإله أشياء كثيرة جدا “.

-الخلوة هي حالة من الانقطاع عن المؤثرات والطاقات الملوثة التي تمنع استقبال طاقة النور
التي ستأتيك من هذه الخلوة.

-الزم آيات وأوراد النور التي ترفع وتجعل فيه اتصال بينك وبين هذا النور القادم من السماء
ومتصل بمسار النور

  • ” هذه الطاقة السامية الأتية من السماء: الطاقة النورانية الخالصة العظيمة”
  • روحك طاهرة قادمة من عالم النور، تستمتع بهذه الخلوة
  • تأتيك رسائل مستمرة لكن أنت منفصل عن السماء ومتصل بالإيجو”
  • “ونفخت فيه من روحي: الكائن إذا استخلفته في الأرض تبقي بيني وبينه صلة”
  • الخلوة لو ساعتين – ستخلق فرقا كبيرا في علاقتك مع الله وستعلم أن الله قريب
    ومجيبه وأنه موجود في أعماقك وموجود في آفاقك عندما نقدم عليه بالحب”.

ومع ما سبق. فإن المقطع لا يخلو من بعض الصواب والحق. وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية
“ولا يتفق الباطل في الؤود الا يشوب من الحق”. ولكن وجود بعض الحق لا يسوغ قبول الباطل، ولا
نشر مثل هذه المقاطع المشتبهة الملتبسة، ولذلك أختم هذا الرد المستعجل بتذكير القارئ : أن الدين
الا يؤخذ إلا عن أهل العلم الثقاتہ ومن أخذه من غيرهم ضل ضلالا بعيدا.
قال ابن سيرين: ( إن هذا العلم دین، فانظروا عمن تأخذون دينكم).
والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم۔

انتهى♦️

د. هيفاء بنت ناصر الرشيد
رمضان 1442 هـ