تصنيفات

هذه المقالة هي[part not set] من 28 سلسلة مقالات الرد العلمي على ممارسات الطاقة

“أنا جربتها ونفعت”..
“كل مرة أعمل (كذا) = يحصل (كذا)”..
“أول ما فكرت في (كذا)… اتحقق”..

هذه الجمل وما شابهها يتداولها كثير من الناس في خضم ممارساتهم الحياتية، خلاصتها: ربط نتائج أو أحداث معينة بأسبابٍ “متوهمة” لمجرد التلازم أو التوالي في ترتيب حدوثها! وهو ما يجعل كثيرًا من الناس يتوهم أن (وسيلة ما) تعد سببًا (لنتيجة ما) دون تحقق.

لكن ما هي الوسيلة أو السبب؟

خلق الله سبحانه وتعالى هذا الكون وجعل له أسبابًا وسننًا ووسائل توصل للمراد، وجعلها على نوعين:

(1) سبب شرعي

(2) سبب كوني.

(1) فأما السبب الشرعي:

فهو كل سبب أمر به الله تعالى في وحيه يوصل إلى المقصود منه، فعلى سبيل المثال؛ التوحيد سبب لدخول الجنة، وصلة الرحم سبب لسعة الرزق. فهذه الأمور وأمثالها إنما عرفنا أنها وسائل تحقق تلك الغايات والمقاصد عن طريق الشرع وحده، لا عن طريق العلم أو التجربة أو الحواس، فنحن لم نعلم أن صلة الرحم تطيل العمر وتوسع الرزق إلا من قوله صلوات الله وسلامه عليه[1].

(2) وأما السبب الكوني:

فهو كل سبب طبيعي خلقه الله بهيئته وخواصه ليؤدي وظيفته التي فطره الله عليها، فعلى سبيل المثال؛ النار تحرق، والماء يروي، والسكين يقطع، وهي أسباب يتساوى فيها المؤمن والكافر. إلا أنه لا يتم إثباتها كأسباب إلا بعد ثبوت صحتها علميًا وفق منهجية معرفية أو استقرائية إحصائية سليمة بعيدة عن التأثر الأيديولوجي للباحث، مع توفر معايير للأمانة والمهنية العلمية، إضافة لعوامل أخرى كثيرة ليس هنا مجال بسطها.

و يبقى معرفة أمر آخر في هذا الصدد؛ وهو أن السبيل الوحيد لمعرفة جواز السبب – كوني أو شرعي – هو ثبوت صحته شرعًا، فليس كل سبب كوني ثبت نفعه وتحقيقه للمراد جائز شرعًا، فالخمر فيه منافع، والربا سبب لزيادة المال، والسحر سبب للتأثير؛ وكل هذه الأسباب الكونية محرمة بنصوص الوحي، كما أنه ليس كل ممارسة تعبدية تعتبر سبب شرعي ما لم تثبتها نصوص الوحي. والطريق الصحيح لمعرفة مشروعية الوسائل الكونية والشرعية هو الرجوع إلى الكتاب والسنة، والتثبت مما ورد فيهما عنها، والنظر في دلالات نصوصهما، وليس هناك طريق آخر لذلك ألبتة.فهناك شرطان لجواز استعمال سبب كوني ما؛ الأول أن يكون مباحًا في الشرع، والثاني أن يكون قد ثبت تحقيقه للمطلوب، أو غلب ذلك على الظن.وأما الوسيلة الشرعية فلا يشترط فيها إلا ثبوتها في الشرع ليس غير[2].

مغالطة التلازم والتتابع على المستوى العلمي التجريبي والإحصائي

إن مجرد التلازم بين ظاهرتين أو التتابع بينهما لا يعني بالضرورة أن السابقة سبب للاَّحقة، فكثير من الناس يعتقدون في السبب (س) لتلازمه مع النتيجة (ص)، بمعني أنه يتلازم أو يتكرر أحيانًا ظهور الأثر (ص) بعد حدوث السبب (س)، بينما لا توجد منهجية علمية تثبت وجود هذا الترابط بينهما، أو إحصائيات علمية حقيقية تؤكد تكراره.

 إنما لا يعدوا الأمر كون هذه الأحداث في كثير من الأحيان ترتبط بقصص قديمة أو تصادف هوىً في النفس، أو ترتبط أحيانًا أخرى بأساطير وخرافات وموروثات قصصية يتداولها الآباء نقلاً عن الأجداد، أو كما يسميها بعض علماء النفس بـ “الإدراك الانتقائي” أو “الذاكرة الانتقائية” وهو الميل للربط والتذكر للأحداث الشاذة والشيقة دون الاهتمام بالأحداث التقليدية التافهة.

من أمثلة ذلك أنه لن يثير اهتمام شخص ما إذا خرج من منزله فوجد إطار سيارته فارغًا من الهواء؛ بينما سيعلق بذهنه ذلك وقد يثير ارتيابه أو ملاحظته إذا سبقه بقليل حديث بينه وبين زوجته أخبرته فيه أن صديقة لها قد فرغ إطار سيارتها من الهواء البارحة، فحينها قد يحدث “إدراك انتقائي” وربط لهذا الحدث بما أخبرته به زوجته، فإذا تكرر هذا الأمر مرة أو مرتين على سبيل المثال مع الشخص نفسه سيتم تأكيد هذا التلازم بنسبة ما في حسه، بينما لا تلازم ولا ترابط بين الحدثين من الناحية العلمية التجريبية، ولا من الناحية الإحصائية كذلك! فمن الناحية العلمية لا علاقة سببية بين ما تخبر به الزوجة وبين فراغ إطاره من الهواء، ولا من الناحية الإحصائية يوجد تكرار لمثل هذا الموقف!.

جدول الحياة الرباعي الكبير[3]

ولفهم أوضح لهذه التلازمات وضع علماء النفس جدول الحياة الرباعي لدراسة أي ظاهرة ومعرفة مدى صحتها من حيث التلازم بين ظاهرتين، وأحب هنا أن أضرب المثال على ما افتُتِنَ به كثير من الناس وهو ما يطلقون عليه (قانون الجذب)، حيث يزعمون أن الإنسان بمجرد التفكير في شيء ما فإنه يجذبه إليه جذب ذاتي؛ ولنضرب مثالاً بالترقية الوظيفية.

حصلت على الترقية

لم تحصل على الترقية

فكرت في الترقية

( أ )

(ب)

لم تفكر في الترقية

(ج)

(د)

يزعم مروجو قانون الجذب أن الشخص إذا فكر في الترقية وجلب مشاعر معينة تجاهها فإنه يجذب إليه هذه الترقية ومن ثم يحصل عليها.

إذا طبقنا الجدول الإحصائي السابق لعمل إحصائية (حتى لو على شخص واحد ):

فالنقطة ( أ ) نكتب فيها عدد المرات التي فكر فيها ( الشخص/ الأشخاص ) في الترقية مطبقًا خطوات قانون الجذب، وحصل فيها على الترقية.

تمثل النقطة (ب) عدد المرات التي فكر فيها ( الشخص/ الأشخاص ) في الترقية مطبقًا خطوات قانون الجذب، ولم يحصل فيها على الترقية.

تمثل النقطة (ج) عدد المرات التي لم يفكر فيها ( الشخص/ الأشخاص ) في الترقية ولم يطبق خطوات قانون الجذب، وحصل فيها على الترقية.

تمثل النقطة (د) عدد المرات التي لم يفكر فيها ( الشخص/ الأشخاص ) في الترقية ولم يطبق خطوات قانون الجذب، ولم يحصل فيها على الترقية.

هنا تكمن المشكلة؛ ففي الحياة الواقعية غالبًا ما نتسم بالضعف الشديد في تقدير الارتباطات من خلال (جدول الحياة الرباعي)، ويرجع ذلك أننا نهتم اهتمامًا كبيرًا بخانات معينة ولا نوجه الاهتمام الكافي لخانات أخرى. والأبحاث توضح على نحو خاص أننا عادة ما نمعن في الإهتمام بالخانة ( أ ) ولا نوجه اهتمامًا كافيًا للخانة (ب)[4] ، ولا عجب في ذلك لأن الخانة ( أ ) عادة ما تكون أكثر إثارة من الخانة (ب)[5] ، لذا فمن الطبيعي أن يتم تناقل عدد مرات الخانة ( أ ) ونشرها بين الناس والتحدث بشأنها فهي أكثر إثارة وتشويقًا. أضف إلى ذلك إشباع رغبة البعض في التميز بشعوره أنه يمتلك خارق من خوارق العادات أو أنه ذو شفافية ما، أو على الأقل متميزًا على أقرانه، بخلاف الأمر في النقطة (ب) فسيعتبر حالة عادية ولن تجد أحدًا يقول لك: “ياللروعة.. تخيل أني فكرت البارحة في الترقية وجلبت مشاعر تجاهها وفي الصباح ذهبت إلى العمل ولم أحصل عليها!!” فضلاً عن النقطة (ج) و(د) التي تهدم زعم ما يسمى بقانون الجذب.

يقول تشابمان:”إن ميلنا إلى تذكر الأحداث العظام في حياتنا ونسيان الأحداث الصغار غالبًا يؤدي إلى ظاهرة ملحوظة يطلق عليها “الإرتباط الوهمي”، وهي المفهوم المغلوط المتمثل في أن حادثين لا يرتبط أحدهما بالآخر من الناحية الإحصائية هما مرتبطان في حقيقة الأمر”

لذا فمن الخطأ استنتاج علاقة سببية بين متغيرين أو أكثر لمجرد أنهم يرتبطون ببعض أو يحدثون في آن واحد. فالعلماء يقولون: “الارتباط لا يعني علاقة السببية؛ لذا إذا كان المتغيران ” س” و “ص” مرتبطين فيمكن أن يكون هناك ثلاث تفسيرات رئيسية:

المتغير (س) سببًا للمتغير (ص)

المتغير (ص) سببًا للمتغير (س)

ربما يسبب متغير ثالث (هـ) كلاً من المتغير (س) و(ص). على سبيل المثال أن يكون (هـ) عاملاً مساعدًا على ارتباط (س) و(ص)

 ويطلقون على هذا المتغير الثالث “معضلة المتغير الثالث“. وتكمن المشكلة في أن الباحثين الذين أجروا الدراسة ربما لم يعمدوا إلى قياس المتغير (هـ) قط، بل ربما لم يسمعوا قط بوجوده.[6]

يقول علماء النفس: “الارتباط لا يعني علاقة السببية”، لذا فإن الاستنتاج بوجود ترابط سببي بين حدثين إذا أشارت الإحصاءات لحدوثهما معًا من حيث الزمان أو المكان غير دقيق، بل قد يكون في كثير من الأحيان خطأ النقطة الرئيسية هنا أنه عندما يتلازم متغيران أو يرتبطان؛ فلا ينبغي لنا أن نفترض وجود علاقة سببية مباشرة بينهما، فهناك تفسيرات أخرى محتملة[7]. بل قد لا تكون هناك أي علاقة سببية مباشرة أو غير مباشرة من الأساس!

فلازلت أذكر قصة قرأتها في كتب تطوير الذات[8] يُذكر فيها أن قسم الشكاوى لشركة سيارات كبيرة قد تلقى شكوى من رجل مسن يقول له فيها:”أنه كل يوم سبت إذا قام بشراء مثلجات بنكهة الشوكولاته فإن السيارة لا تعمل، بينما إذا اشترى مثلجات بنكهة الفراولة فإن السيارة تعمل، إلا أن القسم المختص لم يلقِ للشكوى بالاً، إذ لا علاقة بين السيارة والمثلجات من أي ناحية! ومع تكرار شكوى صاحب السيارة وبنفس الصيغة تم فحص السيارة ولم يجدوا بها أي عيب. وأمام إصراره تم إرسال مندوب صيانة معه لمتابعة الموقف، فذكر له أنه يقوم كل أسبوع بجولة مع أحفاده بالسيارة، وبعد انتهاء الجولة يذهب معهم إلى السوق ليشتري لهم المثلجات، فإذا قام بشراء مثلجات بنكهة الشوكولاته فإنه يعود إلى السيارة ويحاول تشغيلها فلا تعمل، أما إذا قام بشراء مثلجات بنكهة الفراولة فعندما يعود إلى السيارة ويحاول تشغيلها فإنها تعمل فورًا”.

وبتطبيق ما ذكره صاحب السيارة فعلاً لم تعمل السيارة! وبفحص السبب تبين الفني أن مثلجات الفراولة تتطلب وقتًا أطول في إعدادها وبفحص مشغل السيارة تبين له أن مشغل السيارة ترتفع حرارته، ولذلك فإذا أطفأ السيارة وذهب لشراء مثلجات بنكهة الشوكولاته والذي لا تتطلب وقتًا طويلاً لإعدادها فإن المشغل لا يبرد بالقدر الكافي فلا تعمل السيارة، بينما تتطلب المثلجات بنكهة الفراولة وقتًا أطول في إعدادها وهو ما يسمح لمشغل السيارة أن يبرد بالقدر الكافي ومن ثم إذا عاد الرجل لتشغيلها فإنها تعمل دون أي مشكلة”.

لك أن تتخيل ما يمكن أن يتم استنتاجه من علاقات سببية بين نكهات المثلجات وعطل السيارة يوم السبت من كل أسبوع! ومع تكرار الواقعة خاصة مع نفس الشخص قد تزداد هذه الروابط “الوهمية” رسوخًا، بل يمكن أن يتم تناقلها بين الناس باعتبارها أمرًا شاذًا أو مريبًا، وقد يترتب عليها تفاؤلاً أو تشاؤمًا، بينما قد يستغلها البعض لترويج شعوذات أو معتقدات وفلسفات معينة، وقد يستغلها البعض للتربح المادي بصورة ما!.

 إن هذه القصة مثالاً واضحًا لما يطلق عليه “معضلة المتغير الثالث”؛ إذ لا علاقة إطلاقًا بين نوعية المثلجات المطلوبة وعمل السيارة، إنما حدث هذا التوهم لمجرد التلازم المتكرر بين المتغيرين (المثلجات / عمل السيارة)، بينما هناك “متغير ثالث” غير ظاهر هو سبب هذا التلازم. إن مثل هذه الحوادث تعتبر مادة خصبة جدًا لنشأة الخرافات والشعوذات والاعتقاد فيها.

مغالطة التلازم والتتابع على المستوى الشرعي:

يقول البعض: “دعوت الله عند قبر الولي الفلاني فاستجيبت دعوتي

ويقال: “نذرت النذر الفلاني إن تحقق مرادي.. فتحقق!”

كثيرًا ما يحتج بعض الناس بهذه الحجج معتقدين بذلك التلازم بين تحقيق رغباتهم وما سبقها من عبادات أو أعمال ظنوها من العبادات. ففي الحالة الأولي؛ يعتقد أن الاستجابة نتيجة لدعائه عند قبر الولي الفلاني، وكثيرًا ما يخلط الناس في هذه الأمور، فيظنون أنه بمجرد ثبوت النفع بوسيلة ما تكون هذه الوسيلة جائزة ومشروعة، فقد يحدث أن يدعو أحدهم وليًا، أو يستغيث بميت فيتحقق طلبه، وينال رغبته، فيدّعي أن هذا دليل على قدرة الموتى والأولياء على إغاثة الناس، وعلى جواز دعائهم والاستغاثة بهم، وحجته في ذلك = حصوله على طلبه. وقد قرأنا – مع الأسف – في بعض الكتب الدينية أشياء كثيرة من هذا القبيل، إذ يقال أو ينقل عن بعضهم قوله مثلاً: “إنه وقع في شدة، واستغاث بالولي الفلاني، أو الصالح العلاني، وناداه باسمه، فحضر حالاً، أو جاءه في النوم فأغاثه، وحقق له ما أراد”.وما درى هذا المسكين وأمثاله أن هذا – إن صح وقوعه – استدراج من الله عز وجل للمشركين والمبتدعين، وفتنة منه سبحانه لهم، ومكر منه بهم، جزاءًا وفاقًا على إعراضهم عن الكتاب والسنة، واتباعهم لأهوائهم وشياطينهم.

فالذي يقول هذا الكلام يجيز الاستغاثة بغير الله تعالى، هذه الاستغاثة التي هي عين الشرك الأكبر، بسبب حادثة وقعت له أو لغيره، ويمكن أن تكون هذه الحادثة مختلقة من أصلها، أو محرفة ومضخمة لإضلال بني آدم، كما يمكن أن تكون صحيحة، وراويها صادقًا فيما أخبر، ولكنه أخطأ في حكمه على المنقذ والمغيث، فظنه وليًا صالحًا، وإنما هو شيطان رجيم، فعل ذلك عن قصد خبيث، هو تلبيس الأمور على الناس، وإيقاعهم في حبائل الكفر والضلال من حيث يشعرون أو لا يشعرون[9].

ويشهد لهذا الكلام حديث زينب إمرأة ابن مسعود رضي الله عنهما إذا قالت: أن عبد الله رأى في عنقي خيطًا، فقال: ما هذا؟ فقلت: خيط رقي لي فيه، قالت: فأخذه فقطعه، ثم قال: أنتم آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إن الرقى والتمائم والتولة شرك” فقلت: لم تقول هكذا؟ لقد كانت عيني تقذف، وكنت أختلف إلى فلان اليهودي، فإذا رقاها سكنت، فقال عبد الله: إنما ذلك عمل الشيطان، كان ينخسها بيده، فإذا رقي كف عنها، إنما كان يكفيك أن تقولي كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “اذهب البأس رب الناس واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما”[10].

بينما في الحالة الثانية – حالة النذر -؛ إنما تحقق الغرض المطلوب بسبب آخر غير النذر، فقد أخبر صلى الله عليه وسلم بأن “النذر لا يأتي بخير” وأنه لا يجلب نفعًا ولا يدفع شرًا[11]، وهذا كله في نذر الطاعة الذي لا إثم فيه، فكيف بما كان فيه معصية أو اثم؟!.

وبذلك تتضح مغالطة التلازم والتتابع بين كثير من المتغيرات على المستوى الشرعي، وما أجمل ما نقله شيخ الإسلام عن هذا التلازم ومطابقته لما يطلق عليه علماء النفس “الارتباط الوهمي” إذ يقول رحمه الله: “إن اعتقاد المعتقد أن هذا الدعاء أو هذا النذر كان هو السبب، أو بعض السبب في حصول المطلوب لابد له من دلالة، ولا دليل على ذلك في الغالب إلا الاقتران أحيانًا، أعني وجودهما جميعًا، وإنّ تراخي أحدهما عن الآخر مكانًا أو زمانًا مع الانتقاض أضعاف أضعاف الاقتران، ومجرد اقتران الشيء بالشيء بعض الأوقات مع انتقاضه ليس دليلاً على الغلبة باتفاق العقلاء، إذا كان هناك سبب آخر صالح، إذ تخلف الأثر عنه يدل على عدم الغلبة. فإن قيل: إن التخلف بفوات شرط، أو لوجود مانع[12]، قيل: بل الاقتران لوجود سبب آخر، وهذا هو الراجح” [13].

ونلاحظ تطابقًا عجيبًا بين ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في كلامه السابق وبين ما أثبتته التجارب العلمية والإحصائية السابق ذكرها في أول هذا المقال.

والحاصل أن كثيرًا من معتقدي النفع في أسباب وهمية دنيوية، أو ما يتوهمون أنها أسباب شرعية إنما وقع اعتقادهم هذا لمجرد التلازم أو التتابع بين حدثين أو متغيرين، فظنوا لمجرد وجود هذا التلازم أن هناك علاقة سببية كونية أو شرعية متوهمة بينهما، بينما في الحقيقة أنه لا تلازم إطلاقًا، ويمكن أن تؤدي الارتباطات الوهمية بنا أن نتخيل وجود مجموعة متنوعة من الارتباطات التي لا وجود لها[14].

وبالنظر لما يروجه ويلوكه مروجو ما يسمى بـ”قانون الجذب” و”العلاج بالطاقة” و”قانون النية” إلى آخر هذه الممارسات والتطبيقات؛ نجد تطابقًا كبيرًا بينه وبين هذه الأسباب المتوهمة:

فمن الناحية العلمية: لم تخضع هذه الممارسات للبحث العلمي الرصين، ولم تطبق عليها تجارب علمية حقيقية وفق القواعد العلمية التي تقوم على أصولها[15].

ومن الناحية الإحصائية: لا توجد إحصائيات رسمية موثقة تقوم على الأسس العلمية توضح التلازم والترابط بين أي من هذه الممارسات والنتائج المزعومة لها.

بل إن كثيرًا من التفسيرات المحتملة لما قد يحدث للمريض أو الممارس لهذه الممارسات يرجعه بعض علماء النفس للارتياح النفسي لهذه الممارسة، أو للأثر الإيحائي لهذه الممارسة، إما لقوة شخصية المعالج أو المحاضر، أو لتستره خلف ألقاب أو مصطلحات علمية أو شرعية، أو لظن المتعالج أو الممارس أن ما يقدم له هو علم مثبت ومعترف به.

أما من الناحية الشرعية فهناك نقطتان:

الأولى: وهو ما يطلق عليه “الأسلمة”؛ إذ يقوم المروجون لهذه الممارسات بمحاولات بائسة لأسلمتها، وذلك عن طريق استدلالات عوجاء لنصوص الوحي المطهر لتخدم مرادهم، و الأمثلة أكثر من أن يتم إحصائهافي هذا المقال[16]، إنما نورد هنا مثال يكثر ترديده من مروجي قانون الجذب، وهي واقعة زيارة الرسول عليه الصلاة والسلام للعجوز المصاب بالحمى وقوله له: “طهور إن شاء الله” ورد العجوز: “كلا، بل هي حمى تفور على شيخ كبير تزيره القبور. فيستدلون بأن الشيخ الكبير قد جذب إليه الموت فمات!

بينما النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا بأس، طهور إن شاء الله”، وهي تسلية للمريض وتذكير ودعاء لله تعالى بأن يطهره من مرضه هذا ويشفيه وأن يجعله مطهرة له من الذنب إن صبر واحتسب، فيجمع الله له بين الأجر والعافية. ففي الحديث: “ما يُصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يُشاكها إلا كفّر الله بها من خطاياه”. إلا أن العجوز رد على دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بقوله الذي سبق، وحينها قال النبي صلى الله عليه وسلم: “نعم إذن، فقد رد الأعرابي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: “كلا”، وتسخط في مرضه هذا بالسابق بيانه، فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله “نعم إذن”، وفيه وجه شبه بواقعة بسر في رده على النبي صلى الله عليه وسلم عندما نصحه بالأكل بيمينه فقال: “لا أستطيع”، فقال له النبي: “لا استطعت”، فما رفعها إلى فيه، فما علاقة هذا بأن الأعرابي جذب إليه موته؟!

ثم إن سلمنا لهم بأن الأعرابي لما ظن الموت والهلاك وقع له ذلك، فقد يُحمَل على الأثر النفسي وتأثيره العضوي وهو معلوم ومشاهد[17]، بل ودلت عليه الأدلة العلمية والدراسات الطبية من أن للحالة النفسية للمريض أثر مباشر في قوة المناعة الذاتية في الجسم ونشاطها في مقاومة الأمراض بإذنه سبحانه، وهو ما يستفاد من الحديث، لذا وضع المحدثون وشراح الحديث هذا الحديث في (باب عيادة المريض وما ينبغي أن يقال له، وما ينبغي للمريض أن يجيب به)، وعليه يمكن حمل موت الأعرابي لحالته النفسية السيئة وظنه الموت الذي دفعه لقوله: “بل هي حمى تفور على شيخ كبير تزيره القبور.

فإن سلمنا بهذا وهو محتمل؛ فهو راجع للتأثير النفسي على الجسد، والسببية هنا واضحة لإرتباطهما ببعض، فكيف يُتعدى التأثير إلى الخارج بل إلى الماديات المنفصلة عن الجسد فيتجاوز التأثير من المحيط الداخلي للإنسان إلى المحيط الخارجي بل يتعداه إلى التأثير الكوني؟؟!.

تجد من يروج في دوراته على جذب شريك الحياة، وجذب الأموال، بل جذب السلام للمناطق المنكوبة بالحروب أو الكوارث عن طريق إرسال طاقة ونية سلام وسعادة إلى المنكوبين!

فيكون الظن مجرد الظن سببًا في التأثير في الماديات والأحوال والهيئات كما يقول أحد كبارهم: “فيمكن صد حدث مستقبلي قاض بأفعال أو أقوال أو ظنون”. إن استدلالهم بهذه القصة مثال واضح على مغالطة التلازم بين حدثين يثبتون به علاقة سببية متوهمة وهي أن العجوز قد جذب الموت إليه.

الثانية: الأصول العقدية الفلسفية لهذه الممارسات وتشبعها بالفلسفات الباطنية الثيوصوفية في كثير من الأحيان والتي لا يمكن فصلها عن هذه الممارسات[18]، إذ لو تم عزل الجانب الغيبي المدمج في الممارسة وأبعاده الفلسفية الروحانية؛ لما بقيت إلا تمارين رياضية كتمارين الإطالة واللياقة البدنية (كتطبيقات “اليوجا” و”التشي-كونج” و”التاي-تشي”)، ولبيان فائدتها أو ضررها يُرجع في هذا الباب للمختصين في التأهيل الرياضي، أو ما كان منها متعلقًا بأنظمة غذائية تهدف للإستغناء عن عادات سيئة في المطعم (نوعًا –كمًا وكيفًا ) ويرجع فيها للمختصين في التغذية. إلا أنه يغلب على ظني أن هذه الممارسات لو فُرّغت من مضامينها الفلسفية والعقدية لن تلقى رواجًا و لن تُدِر أموالاً على مروجيها.

عود على بدء

لذا فإن ما يدندن حوله ويردده كثير من المخدوعين بهذه الممارسات “أنا جربتها ونفعت”، لابد من إخضاعه لما سبق ذكره وبيانه، وإخضاع هذه النتائج – التي قد يشعرون بها تَوَهُّمًا أو على الحقيقة – في حسهم أو واقعهم لهذه المنهجية السابق الإشارة إليها، ليتبين لهم هل ما يشعرون به في حسهم (راحة – سكينة – هدوء) يرجع إلى تأملات تستجلب طاقة كونية مزعومة تشحن الشاكرات وتسير في مسارات..إلخ؟

أم أن مجرد الجلوس في هدوء والبعد عن الضوضاء أو الجلوس في مكان طبيعي مع الاسترخاء يؤدي كذلك لنفس النتيجة؟

هل الترقية الوظيفية أو السيارة المعينة حصل عليها لمجرد أنه فكر فيها وطبق مزاعم قانون الجذب فجذبها؟ وهل يمكن إخضاع ذلك لجدول الحياة الرباعي وبيان مدى تكراره؟

أم أن أضعاف هذه المتغيرات تحدث للشخص دون أن يفكر فيها، وبالعكس فأضعاف ذلك أيضًا يفكر فيه المرء ثم لا تناله يديه؟

ثم إن وجود هذه الفلسفات الوثنية والتصورات المنحرفة واحتوائها على مصادمة صريحة للعقائد والتصورات الإسلامية؛ تعمد إلى تمحور الإنسان حول ذاته وإيهامه أنه هو المتصرف المطلق لمصيره وقدره، الأمر الذي ينتهي ببعض مروجي هذه الضلالات إلى القول بألوهية الإنسان، ما يجعل منها سبيل من سبل الغواية والضلال، ويجعل الأثر – إن ثبت – [19] استدراجًا من الله سبحانه وتعالى أو من أثر الشيطان – كما في حديث زينب إمرأة ابن مسعود رضي الله عنهما.

والمقصود أن إحالة سبب حدوث الشئ لسبب معلوم بدليل ثبت علميًا أو شرعيًا أولى من إحالته إلى خلاف ذلك مما لم يثبت علميًا ولا شرعيًا. والحاصل في ممارسات الجذب والطاقة وأشباهها على عكس ذلك، فمع عدم ثبوتها علميًا ولا شرعيًا؛ فقد نفاها الشرع لقيامها على أصول فلسفية وثنية ضالة لو فُرّغَتْ منها لم يبقى لها رواجًا بين الناس.

ورحم الله ابن تيمية إذ يقول: “فإنا نرى الله في كل وقت يقضي الحاجات ويفرج الكربات، بأنواع من الأسباب، لا يحصيها إلا هو، وما رأيناه يحدث المطلوب مع وجود هذا الدعاء المبتدع إلا نادرًا، فإذا رأيناه قد أحدث شيئًا وكان الدعاء المبتدع قد وجد؛ كان إحالة حدوث الحادث على ما علم من الأسباب التي لا يحصيها إلا الله أولى من إحالته على ما لم يثبت كونه سببًا”[20].

والله تعالى أعلى وأعلم وهو الهادي لسبيل الرشاد.



[1]– التوسل أنواعه وأحكامه، محمد ناصر الدين الألباني ص 18، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع.

[2]– السابق ص 22.

[3]– راجع “أشهر 50 خرافة في علم النفس”، ص36، كلمات عربية للترجمة والنشر.

[4]– جيلوفتش، 1991

[5]– أشهر 50 خرافة في علم النفس، صـ36

[6]– أشهر 50 خرافة في علم النفس صـ38

[7]– المصدر السابق؛ يمكنك مراجعة الكثير من الأمثلة التي دلل بها الكتاب بأن الإرتباط لا يعني علاقة السببية.

[8]– كان الهدف من القصة المذكورة أهمية تنمية مهارة الإستماع لشكاوى العملاء مهما بدت غير منطقية.

[9]– التوسل، الألباني، ص23.

[10]– رواه أبو داود وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح.

[11]– عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن النذر لا يقرب من ابن آدم شيئًا لم يكن الله قدره له، ولكن النذر يوافق القدر فيخرج بذلك من البخيل، ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج»، صحيح مسلم.

[12]-وهذه غاية حجة مروجي ضلالات الجذب في نقاشاتنا معهم عند إلزامهم بأن عدم تحقق ما يسمونه “قانون الجذب” في جذب ما يريده الناس (حتى بعد تطبيقهم لما يذكرونه في دوراتهم) أضعاف أضعاف أضعاف ما قد يتحقق، فكيف يكون قانونًا؟! فيسارعون بالرد “بوجود مانع أو فوات شرط”! فما أسهل أن يتهموا المُمَارِس دون الممارسة ذاتها!

[13]-اقتضاء الصراط المستقيم (2/233)، دار عالم الكتب، بيروت- لبنان.

[14]-أشهر 50 خرافة في علم النفس صـ37؛ ويضرب الكتاب مثال: “إن العلاقة المزعومة بين حالات اكتمال القمر وحالات دخول المستشفيات النفسية لمثال حي على الارتباط الوهمي؛ على الرغم من أن أناسًا كثيرين يثقون في ذلك الارتباط، فإن الأبحاث تشير إلي عدم وجوده(روتن وكيلي -1985)، الاعتقاد في تأثير القمر المكتمل هو وهم معرفي إذن”.

[15]-وهي تلك التي تقوم على (1- الملاحظة وسلامة آلات الإختبار وانعدام المؤثرات الاعتقادية أو العقلية 2- الفرضية 3-التوقع 4-الاختبار وتطبيق ما يعرف بال double blind test5- النتيجة)، ويستتبع ذلك قابلية تكرار التجربة من قِبل أقران الباحث أو العالم والوصول إلي نفس النتيجة، وكذلك نشرها في المجلات العلمية الموثوقة. لمزيد من التفاصيل يمكن الرجوع لسلسلة مقالات المهندس طلال العتيبي أو مطالعة ” الرد العلمي على ممارسات الطاقة” على موقع سبيلي.

[16]-يمكنك مطالعة “الرد على فلسفة الطاقة” على موقع سبيلي، أو موقع الفكر العقدي الوافدللدكتورة فوز الكردي.

[17]-ورغم ذلك لا يمكن جعل هذا الأمر قاعدة عامة مطردة، يُفهم منها أن كل مريض بمرض ما ساءت حالته النفسية أو أصيب بإحباط شديد يؤدي ذلك لوفاته، فلا نزال نسمع ونشاهد من أصيب بمرض خطير وتوقع الأطباء وفاته وجلس ينتظر الموت، فشفاه الله من مرضه ورد عليه عافيته إما لأسباب كونية كنجاعة الدواء أو مهارة الطبيب – بعد مشيئته سبحانه -، أما لأسباب شرعية كالصدقة والدعاء وصلة الرحم؛ أو لاجتماعهما معًا؛ أو بلا سبب على الإطلاق وإنما محض مشيئته سبحانه.

[18]– للمزيد يمكنك مراجعة فصل ” الأصول العقدية و الفلسفية لهذه التطبيقات“على موقع سبيلي. ولمزيد توسع يراجع في هذا الباب رسائل ومقالات د.فوز الكردي و كتاب ” التطبيقات المعاصرة لفلسفة الاستشفاء الشرقية- دراسة عقدية” للدكتورة هيفاء الرشيد- رسالة علمية.

[19]-ثبت حسًا وشعورًا أو حقيقة بغير سبب علمي منضبط يفسره، أو سبب شرعي دلت عليه نصوص الوحي.

[20]-اقتضاء الصراط المستقيم (2/234).

تابع سلسلة المقالات