الترويج للمذاهب الباطنية : الثيوصوفيا “Theosophy”
الثيوصوفيا (Theosophy) من حيث تعريف معتقديها : هي المعرفة الإلهية أو العلم الإلهي؛ إن كلمة ثيوصوفيا مشتقة من الكلمتين اليونانيتين ثيوس theos التي تعني “إله” وصوفيا sophia التي تعني “حكمة”؛ فالكلمة بمجملها تعني “حكمة الآلهة” أو “الحكمة الإلهية”..[1]
تم إنشاء الجمعية الثيوصوفية علي يد “هيلينا بتروفنا بلافاتسكي” [2] سنة 1875 بمدينة نيورك من أجل إعادة نشر العقيدة السرية – كما أسمتها “بلافاتسكي” حيث تهدف الجمعية إلي ثلاثة أهداف رئيسية:
أ. تشكيل نواة للأخوَّة الإنسانية الشاملة دونما تمييز بين عرق أو مذهب أو جنس أو طائفة أو لون.
ب. الدراسة المقارنة بين الأديان والفلسفات والعلوم، قديمها وحديثها.
ج. استقصاء قوانين الطبيعة غير المفسَّرة والقدرات الكامنة في الإنسان.
هذه الأهداف إستمدتها بلافاتسكي بعد أن زعمت أنها اتصلت بالأخوية البيضاء الكبرى وقامت برحلات بعيدة في العالم مفتشة عن المعرفة الروحية، حتى بلغت معتزَل معلِّمها وأفراد آخرين من الأخوية الكبرى في الهملايا حيث سورِرَت بمعرفة غزيرة وصارت مقدَّمة الأخوية المتفانية في نقل جانب من تلك المعرفة[3]، و قد قامت بتأليف عدة كتب و مؤلفات يعد من أشهرها كتاب ( العقيدة السرية ) حيث زعمت فيه أنه هناك حقيقة واحدة مطلقة أو نواة منها فتُعلَّم جهرًا لتهيمن على حضارة بأسرها وتطفو على سطحها تارة (كما في مصر القديمة والهند وبلاد الإغريق في عصرها الذهبي)، أو تُكتَم عن عامة الناس وتُعلَّم سرًّا للصفوة التي تصبو إليها طورًا. ولقد كانت تلك الجذوة أو الشعلة – هي تلك “العقيدة السرية”، التي كانت إبان الدور الذهبي من ماضي الإنسانية السحيق ملكًا لجميع الناس ولم تكن حكرًا على فئة دون فئة؛ و لكن أنانية البشر و سوء تصرفهم و ميلهم للشر جعل المؤتَمَنين على تلك الشعلة من السادة الحكماء لا يسرُّون بالحقائق الجوهرية إلا لتلامذة مختارين حقيقين باقتبالها وصونها عبر “المسارَرة” Initiation. ولقد صيغت هذه العقيدة – الأم صياغات متعددة؛ وبحسب أزمنة إعلانها وأمكنته كان التشديدُ على هذا الركن من أركانها أو ذاك. غير أن مبادئها الأساسية ظلت ثابتة عبر العصور، لم تطلها يدُ البِلى أو التحريف. [4]
و خلاصة العقيدة التي تروج لها الثيوصوفيا تؤكد علي وحدة كلِّ الأديان في الجوهر والغاية، ونظرت إليها جميعًا بوصفها نتفًا مختلفة الأشكال والألوان من نور الحقيقة الإلهية الواحدة، فشبَّهتْ الثيوصوفيا بالشعاع الأبيض للضوء وكلَّ دين بلون من ألوان الموشور الستة فعلي الرغم من وجود أديان عديدة ، لكن الدين الشامل واحد أبدًا: إنه دين الحكمة Wisdom Religion الذي يدعى كذلك في الأدبيات الثيوصوفية بـ”الفلسفة الباطنية” Esoteric Philosophy؛ ويخبرنا كتاب العقيدة السرية (أضخم المؤلفات التي خلَّفتها السيدة بلافاتسكي وأهمُّها) بأن الفلسفة الباطنية تؤلِّف بين جميع الأديان فتجرِّد كلاً منها من ردائه الخارجي الظاهر وتبيِّن لنا أن جذر كلٍّ منها هو عينه جذر الأديان الأخرى. وهذا الجذر أو الأصل المشترك هو، كما أسلفنا، دين الحكمة الذي يضمُّ المعرفة المتراكمة عبر العصور بفضل آلاف الرائين والعارفين بالأسرار.
يلاحظ هنا أنه حين يتم ذكر الحكماء أو العارفين يتساوي – في عقيدة الثيوصوفيا – الأنبياء و رسل الله مع كريشنا و بوذا وكل الطواغيت المعبودة من دون الله؛ إذ تعتبر الثيوصوفيا الأنبياء ما هم إلا حكماء مختلفون علي مر العصور؛ إذ لا يؤمنون بإله خالق واحد؛ فعقيدتهم في الإله قريبة جداً من عقائد الأديان الوثنية – كالطاوية والهندوسية والبوذية – المختذلة في عقيدة وحدة الوجود كما يقول و. ك. دجدج[5] ” الثيوصوفيا هي الحكمة عن الله عند الذين يؤمنون أنه الكل في الكل ” [6] فحتي الأديان السماوية – في زعمهم – إنما جائت في الأصل للدعوة لهذه العقيدة السرية ” إن لمما لا يحتمل مجالاً للشك هو أن جميع مؤسِّسي الأديان العالمية – أي السماوية – علَّموا طرفًا من عقائد المنقول الباطني. وما تزال ملامح من هذا المنقول باقيةً في أديان العالم الحية جميعًا، على كونها مدفونة، في أغلب الأحيان، تحت ركام من الشرائع والشروح الحرفية ” [7]
جوانب إلتقاء الثيوصوفيا مع أديان الشرق الوثنية مع تطبيقات الطاقة المعاصرة
إن فلسفة الثيوصوفيا تلتقي في كثير من الجوانب مع فلسفات الأديان الوثنية السابق الإشارة اليها لا سيما في نظرتها للإجابات علي الأسئلة الثلاثة ( المبدأ – الغاية – المصير ) كما تلتقي مع فلسفة الطاقة الكونية إذ تدندن الثيوصوفيا حول كشف ما وراء العالم الجسماني و النظر إلي الكون علي أنه أبدي أزلي له وعيه و ذكائه حيث جائت ضمن مبادئ الثيوصوفيا ” كلُّ ما في الكون واعٍ؛ أي أن وعيًا يسري في كلِّ مكوَّن من مكوَّناته يتناسب ومستواه من التفتح أو درجة إفصاحه عن المبدأ الأصلي.” وهو القول الذي يتشابه جداً مع من يروج لفلسفة الطاقة الكونية في بلادنا الإسلامية حيث يزعمون أن الطاقة الكونية تنتشر وتحل في كل موجودات الكون ، وكما مر بنا كلام “موفق اراكيلي” عند حديثة عن طاقة الريكي و أنها ذات وعي و ذكاء؛ أو كلام “مها نمور” عن الوعي الكوني؛ و كذلك كلام “مها هاشم” حول تأثر الجمادات من كراسي أو أخشاب أو أحجار بمشاعرنا و أحاسيسنا – و ذلك في كثير من الأحيان يكون بعد إضافة النكهة الإسلامية –
“فالثيوصوفيا تنظر إلى الطبيعة باعتبارها كلاً عضويًّا شاسعًا ليس العالم الجسماني منه إلا النقاب أو القشر الخارجي وأن حقيقة العالِم الغيبي، مثلها كمثل حقيقة عالِم الفيزياء، تقبل التحقق منها أو البرهان عليها، لكن السبيل إلى ذلك مختلف بين الحقيقتين. فالعالِم الغيبي يدرك، بالكشف الروحي والوعي الصافي.”[8] و من هنا يُدرك ما قاله “ذو النون المصري ان غاية الحياة الصوفية هي الوصول الي مقام المعرفة التي تتجلي فيه الحقائق فيدركها الصوفي إدراكا ذوقيا لا اثر فيه للعقل ولا للرواية، وذلك لا يكون إلا لخاصة الله الذين يرون بأعين بصائرهم” ….” ولذلك كان العلم يستمد من الله مباشرة دون حاجز في مقام الحلول والاتحاد والاتصال والاشراقات، والعلم عندهم يأتي بالرؤيا، فهم اهل الوصال والاستدلال… وهكذا يحدد المتصوفة نظرتهم للإنسان ومكوناته متأثرين بالأفلاطونية ونظرتها إلي الإنسان، فكان لأسبقية الروح علي الجسد عندهم ان الروح تستمد مكانها المعرفي الإلهامي من خلقها السابق بعالم الأنوار والإشراق. ” [9]
و من هنا تجد تلاقي قوياً جداً بين ممارسي فلسفات الطاقة في تطبيقاتها المعاصرة وبخاصة لمن يروجون لما يسمونه بالتأمل MEDITATION أو الخروج من الجسد out-of-body experience و الإسقاط النجمي Astral Projection إذا يدرك المتأمل – بزعمهم – الحقائق ويدرك العالم الغيبي علي حقيقته إذ يتحرر من جسده المادي الكثيف.” كانت الفلسفة والعلم والدين ككلٍّ واحد لا يتجزأ، وكان مريدو الأسرار الصغرى Lesser Mysteries يدرسون الرياضيات والفيزياء وعلم النجوم إلى جانب التعاليم الخاصة بطبيعة الألوهة والفيض والبنية الباطنية للإنسان. أما “صفوة الصفوة” منهم، المؤهَّلة لولوج الأسرار الكبرى Greater Mysteries، فكانت تركز جهودها على تفتيح ملكاتها وقواها الباطنة في سبيل التحقُّق بالمعرفة والحكمة عبر التأمل الباطني وغيره من الرياضات السرَّانية.” [10]
كما تلتقي أيضاً معهم في فلسفة الكارما لدي أديان الشرق الوثنية و كذلك لدي المروجون لتطبيقات الطاقة حيث يروجون دوماً في دوراتهم لما يسمي بقانون الكارما [11] فتجد أنه من مبادئ الثيوصوفيا “يتماثل كلُّ فرد، من حيث الماهية والجوهر، مع الكينونة أو المبدأ الأصلي المطلق، وإن كان يمرُّ عبر دورات متوالية من التجسُّد امتثالاً لناموس كرما karma، أو قانون السببية الكوني، باتجاه بلوغ المزيد من تفتُّح الوعي.”
و تلتقي أيضاً من حيث النظر إلي ماهية الإنسان ككل ووحدة الوجود “الوعي Consciousness والطاقة Energy، أو الروح Spirit والمادة Matter، حقيقتان مستقلتان من حيث الظاهر؛ لكنهما، من حيث الباطن، وجهان للمطلق أو مظهران له؛ وهما أول تمايز عن المبدأ الأصلي وأساس فعل التجلِّي الكوني”
إن المصطلحات التي يروج لها سواء في دورات التنمية البشرية [12] أو ما يسمي العلاج بالطاقة تكاد تكون هي ذات المصطلحات الباطنية في عقيدة بلافاتسكي حيث تقول تعليقًا على بعض ما جاء في كتابها العقيدة السرية:” إن قاعدة الباطنية برمتها تقوم، على ما يبدو، على وجود قدرة كامنة في كلِّ إنسان بوسعها أن تمنحه المعرفة الحق ؛ هي قدرة على إدراك الحقيقة تمكِّنه من التعامل مباشرة مع الكلِّيات ” تأمل هذا و قارنه مع الشعارات المقدمة في الدورات المقدمة في أوطاننا الإسلامية بعنوان ( أيقظ العملاق بداخلك و طور وعيك – أسرار الطاقة البشرية الكامنة – وعيك الداخلي مفتاح نجاحك – أطلق العنان لقدراتك الداخلية – نجاحك يكمن في وعيك الداخلي )..!
إن هذا الترويج للمنهجية و الفلسفات الباطنية أمرمن الخطورة بمكان و بخاصة علي العقائد السماوية و بالأخص الدين الخاتم المحفوظ دين الإسلام، بل إن هناك العديد من الباحثين من يربط بين الفرق الباطنية بإختلاف مللها من قابالا اليهود مروراً بغنوصية النصاري إنتهاء بالفرق الباطنية المنتسبة إلي الإسلام و بين الحركات السرية الهدامة و علي رأسها الماسونية العالمية “والمُطَّلِع على أساليبِ الماسونية في العصر الحاضِر، وطرق الدُّخول فيها، والتكريس الذي تُمارسه للدُّخول في مَحافلها – يستطيع أنْ يقارن بين أساليب الباطنية عمومًا وبالأخص الإسماعيلية، وأساليب التكريس الماسوني؛ بحيثُ لا نبتعد عن الحقيقة إذا قلنا: إنَّ هناك خيطًا رفيعًا يجمع بين الباطنية والماسونية”[13] أما عن الوسائل فهم يسلكون وسائل تكاد تكون متماثلة وهاك تفصيلَ حيلهم :[14]
1 – التفرس: يُميز الدَّاعي مَن يُمكن استدراجُه، وله القُدرة على الإقناع بأنَّ للنصوص ظاهرًا وباطنًا، وأن يأتي كل واحد بما يُوافق مزاجَه وعقله.
2 – التأنيس: يَجتهد الدَّاعي في التقرُّب من المدعو، والتنسُّك والتعبُّد أمامه، والتبشير بقُرب الفَرَج.
3 – التشكيك: يَجتهد الداعي في تغيير مُعتقد المدعو المستجيب بالأسئلة عن الحكمة من الشرائع، وغوامض المسائل، والمتشابه، وأسرار الأرقام في آي القرآن.
4 – التعليق: بِطَيِّ سِرِّ الشُّكوك المثارة، والإيهام بكِتمان حقيقَتِها عن الغير، فلا بد من عهود توثيق للمُريد؛ كيما يُطالع بها، ثم يُترَك معلَّقًا.
5 – الربط: بالأَيْمان المغلظة، والجهود المؤكدة، (لدرجة الإرهاب الفكري)، فلا يجسر على المخالفة.
6 – التدليس: بالتدرُّج في بثِّ الأسرار – بعد الرَّبط – فيعرض عليه المذهب شيئًا فشيئًا، ويُوهم أن لهم أتباعًا كثيرين لا يُمكن إطْلاعه عليهم؛ كيما يستأنس، وقد يسمون له بعض المرموقين من أهل العلم أو السُّلطان، لكن في بلاد بعيدة لا يُمكنه مراجعتهم؛ لبُعدهم.
7 – التلبيس: بالاتِّفاق على بعضِ القواعد والمسلمات البديهية، ثم يستدرج إلى نتائج باطلة لا يعي بُطلانَها؛ لتسليمه القياد للدَّاعي.
8 – الخلع والسلخ: الخلع من المجتمع بإتباعِه أوامرَ العمل، أما السلخ فمنَ الدين بإتباعه لفلسفةِ المذهب.
إن الثيوصوفيا لا تعدوا إلا محاولة لتجديد المعتقدات الوثنية المنحرفة و عقيدة وحدة الوجود؛ حيث كانت السبب في رواجها و إعادة نشرها لا سيما في الغرب وذلك خلال القرن الماضي و القرن المعاصر و ذلك من خلال دمجها بالعلوم المادية المعاصرة تحت دعوي أنها العلم الشامل الذي يضم علم الشهادة و علم الغيب معاً؛ و بذلك مهدت الطريق لظهور المذاهب الباطنية المعاصرة في القرن الحالي و علي رأسها ما يسمي بعلوم الإيزوتيريك Esoteric
[1] – مفتاح الثيوصوفيا – هيلينا ب. بلافاتسكي
[2] -ولدت في روسيا عام 1831 م وتنقلت كثيرا بين آسيا وأميركا وأوروبا . زعمت أنها قضت 7 سنوات في التبت اطلعت أثناءها على خفايا السحر والتنجيم . وفي عام 1875 م أسست جمعية الـ ثيوصوفي . وفي عام 1878 م انتقلت إلى الهند حيث استعرضت ما زعمت أنه قوى خارقة للعادة وعده أتباعها معجزات ، إلا أنه نشر ما يثبت خداعها ودجلها مما أثر سلبا على سمعتها . لها عدة مؤلفات تعتبر منهجا لأتباعها . توفيت عام 1891 م . انظر : The Columbia Encyclopedia 6th Edition : 5954
[3] – الحكمة الإلهية ومبادئها الأساسية الثلاثة مدخل إلى دراسة العقيدة السرية – ديمتري أفييرينوس
[4] – المصدر السابق بتصريف
[5] – ولد و. ك. دجدج (1851-1896) في دبلن (إرلندة)، وهاجرت أسرته إلى الولايات المتحدة وهو بعد فتى صغير. أصبح مواطنًا أمريكيًّا في العام 1872 وقُبِل في محكمة الدولة في قضاء نيويورك في العام 1874. تأسست في العام 1886 الشعبةُ الأمريكية للجمعية الثيوصوفية برئاسته. انتُخبَ في العام 1888 نائبًا لأولكوت في رئاسة الجمعية.
[6] – محيط الثيوصوفيا .
[7] – الحكمة الإلهية – ديمتري أفييرينوس
[8] – الحكمة الإلهية – ديمتري أفييرينوس
[9] – الأستاذ محمد خطاب في مقاله (الصوفية -فكرها – مصادرها – تقييمها في ميزان الاسلام )
[10] – الحكمة الإلهية – ديمتري أفييرينوس
[11] – راجع إن شئت الدورات التي عطيها الدكتورة مها هاشم علي موقعها الرسمي.
[12] – لا شك أن التنمية البشرية كعلم يدعوا لتنمية قدرات الإنسان وفق قواعد منهجية لا إشكال فيه؛ و إنما الإشكال في يكمن في ما تستر تحت هذا العلم من دعوة لنشر أفكار و عقائد باطنية فاسدة.
[13]– “الحركات الباطنية في العالم الإسلامي”، الدكتور الخطيب.
[14]– “فضائح الباطنية”، أبو حامد الغزالي، مع التصرف.نقلاً من المنظمات الشيطانية- لبليل عبد الكريم.
<< الترويج لعقيدة وحدة الوجود
اترك رد