تصنيفات

نظرات نقدية للبرمجة اللغوية العصبية: نقد الأسس الفلسفية والمنهجية والثقافية والنفسية

نظرات نقدية للبرمجة اللغوية العصبية: نقد الأسس الفلسفية والمنهجية والثقافية والنفسية

د. عبدالله البريدي 

مدخل:
يعد التدريب من أهم الوسائل التي تحقق أهداف الأفراد ورؤى منظمات الأعمال، وتحقق كذلك أهداف التنمية الوطنية الشاملة وتنفيذ برامجها في مختلف المجالات، ذلك أن التدريب أسلوب ذكي لتغيير الاتجاهات وإكساب مهارات ومعارف جديدة، وتغذية المهارات والمعارف الموجودة وتفعيلها، من خلال تبني وتطبيق نماذج ونظريات التعلم الفعالة، على نحو يحقق أعلى درجة ممكنة من الإتقان في الأداء والفعالية والجودة. وهذه النماذج والنظريات يجب أن تتلاءم مع طبيعة المتدربين وبيئة التدريب؛ إذ يتعين مراعاة المتدرب وخلفيته الثقافية، والعلمية، والنفسية، والاجتماعية، وأنماط تفكيره، وغايته من التدريب، ومستويات الدافعية الداخلية لديه، وطبيعة عمل المتدرب، وطبيعة المهارة المستهدفة. كما يتعين مراعاة ثقافة المنظمات واستراتيجيتها وفلسفتها ومناخها التنظيمي، وطبيعة الهيكل التنظيمي وشكله. وقد انتزع التدريب أهمية كبيرة في مباحث “السلوك التنظيمي” المعاصر (الغربي) وأدبياته؛ فزادت عدد الأبحاث المنجزة في مختلف القضايا المتعلقة به، بل وخُصصت له العديد من الدوريات العلمية المحكّمة.
وبنظرات متمعنة في عالم أو “سوق” التدريب في عالمنا العربي، نجد أنه يعج بعشرات البرامج التدريبية “المستوردة”، التي تقوم على نهج “النقل الميكانيكي للأفكار” بالذات من الثقافة الغربية. ومن جملة البرامج التدريبية “المستجلبة” إلى باحات التدريب والتطوير في عالمنا العربي ما ُيعرف بحقل “البرمجة اللغوية العصبية” NLP (أو البرمجة اختصاراً). إن الاهتمام بالمبرمجة اليوم أصبح (موضة) من (الموضات) الثقافية التي ما إن تنقشع حتى تحل مكانها موضة أخرى في فضاء ثقافي يرحب بالأفكار ولا يصنعها.

وثمة سمات ومؤشرات في البرمجة يتعين التفطن لها؛ ومن ذلك أنها تعتمد على المنهج النفعي (سيأتي توضيح ذلك بالتفصيل) وغير ذلك من المسائل المنهجية. والحقيقة أن الباحث لم يكن حينذاك على دراية بالأسس الفلسفية للبرمجة لعدم وقوفه على المصادر الأصلية لها؛ إذ إن البرمجة لم تكن من جملة اهتماماته الأساسية، فذهب بضع سنوات وهو يحمل ذات القناعات حيال البرمجة، وكان الباحث طيلة تلك الفترة يسرّب بعض النتائج “المبدئية” إلى بعض الباحثين والمتخصصين ويجد تفاوتاً كبيراً في الآراء.

ثم ما لبثت البرمجة أن انتشرت بشكل فاق توقعات الباحث وغلبت تقديراته، فتنافست مراكز التدريب، وعكف كثير من المدربين المرموقين في العالم العربي على التبشير بها، وجعلت جحافل الترويج للبرمجة تقرع كل أذن، وتقع على كل عين، واحتدم النقاش بين مؤيدين ومعارضين. ومع شيء من القراءة والنقاش اتضح للباحث معالم جديدة في البرمجة زادت من الإشكاليات والمخاوف السابقة، فقرر أن يبدأ رحلة أخرى مع البرمجة، رحلة أكثر عمقاً؛ تمكنه من الوقوف على جوهرها، فكان عليه أن يتفحص الفلسفة التي تقوم عليها البرمجة، مروراً بأطرها الثقافية والنفسية. وخلص الباحث بعد ذلك كله إلى كتابة بحث تحليلي نقدي تضمن بعض النتائج التي رأى أنها جديرة بالعرض والنقاش في الساحة العلمية والثقافية.

ويقر هذا البحث بالأهمية المتزايدة للتدريب في مجالات التطوير والتنمية على المستويات الفردية والجماعية والمؤسسية والوطنية، ذلك أن التدريب الفعال يعمل -بشكل مؤثر- على تغيير الاتجاهات الموجودة، وخلق اتجاهات جديدة، وإكساب المهارات والمعارف على نحو يزيد من تأهيل المتدربين، ويشجعهم على تطبيق ما تعلموه في بيئة عملهم على نحو متقن، لاسيما وأن العمل في العصر الحالي بات يتطلب قدراً أكبر من الإتقان، والفعالية، والكفاءة، والتكيف السريع، والذكي مع المتغيرات.

ثمة شروط أساسية في هذا البحث يجب توافرها في التدريب في عالمنا العربي، لكي يحقق التدريبُ “الفعاليةَ الحضاريةَ،” التي تتعدى أطر الفعالية الاقتصادية والتقنية والإدارية والاجتماعية بمفهومها الضيق وإطارها التجزيئي، بحيث يصبح التدريب في العالم العربي والإسلامي إحدى الوسائل الذكية للتغيير والتطوير والتنمية، لتنفيذ خطط مشروع التحضر العربي الإسلامي وبرامجه.

وتأسيساً على ما سبق، تتمحور مشكلة البحث حول مدارسة واستكشاف البنية المعرفية – الابستمولوجية- والثقافية والنفسية للبرمجة في ضوء إطارنا الثقافي، وفق الفكر الإسلامي بثوابته ومنطلقاته. ويستخدم البحث المنهج التحليلي النقدي، من خلال تحليل ونقد حقل البرمجة؛ من حيث المنطلقات الفلسفية والثقافية والآثار والانعكاسات الثقافية والنفسية. ويؤمن العمل التحليلي النقدي في هذا البحث بوجوب دوران الحركة النقدية في فلك التحليل الحضاري، الذي يتفهم تموضع الثقافة في مسار التحضر ووظيفتها، ويدرك سير الأمة وتقلباتها في هذا المسار. ومع استنفاد الوسع للتلبس بهذه الصفة، لا يدّعي البحث أنه حقّق نجاحاً كبيراً في القيام بهذه المهمة العسيرة. ونحن في هذا السياق نؤكد على أهمية وجود محاولات جادة في سبيل رسم الإطار النظري والمفاهيمي والمنهجي والإجرائي للحركة النقدية الثقافية الحضارية، مع ما يستدعيه ذلك من “التسامح” عند التعاطي مع تباشير المحاولات المنهجية لتلك الحركة؛ إذ يمنحها ذلك التسامحُ فضاءً فكرياً وشحناً نفسياً يدفعانها لمزيد من البلورة والنضج.

 ويتعين علينا الإشارة إلى بعض القضايا المنهجية الهامة، التي تشكل إطاراً يساعد على فهم الممارسة التحليلية النقدية في هذا البحث؛ ومنها أن الممارسة التحليلية النقدية للبرمجة ستوجّه بشكل رئيس إلى إطارها وفلسفتها ونسقها العام، دون ملامسة تفاصيلها وتقنياتها وطرقها العملية؛ إلا على سبيل إيراد بعض الأمثلة والشواهد على ما نسوقه في تلك الممارسة. كما أن هذه الممارسة لا تدعي الإتيان على كافة القضايا المهمة المتعلقة بحقل البرمجة، وذلك طلباً للاختصار والتركيز، مع الإشارة إلى أهمية وجود دراسات أكثر تفصيلاً وعمقاً، إضافةً إلى أن العمل التحليلي النقدي اتكأ على مقولات منظري الحقل ورؤاهم وفلسفتهم ، ممن يشهد لهم بالريادة والتأثير النظري والعملي في حقل البرمجة. أما تناول العمل التحليلي النقدي، فهناك بعض الجوانب المتعلقة بالمتخصصين في البرمجة في العالم العربي الإسلامي، دون الدخول في مناقشة تفصيلية لآرائهم حيال البرمجة فلسفياً ونظرياً وتطبيقياً، مع إيمان الباحث بأهمية ذلك، لانطواء بعضها على ما يستوجب العمل النقدي الجاد.

ويتعين علينا الإشارة إلى بعض القضايا المنهجية الهامة، التي تشكل إطاراً يساعد على فهم الممارسة التحليلية النقدية في هذا البحث؛ ومنها أن الممارسة التحليلية النقدية للبرمجة ستوجّه بشكل رئيس إلى إطارها وفلسفتها ونسقها العام، دون ملامسة تفاصيلها وتقنياتها وطرقها العملية؛ إلا على سبيل إيراد بعض الأمثلة والشواهد على ما نسوقه في تلك الممارسة. كما أن هذه الممارسة لا تدعي الإتيان على كافة القضايا المهمة المتعلقة بحقل البرمجة، وذلك طلباً للاختصار والتركيز، مع الإشارة إلى أهمية وجود دراسات أكثر تفصيلاً وعمقاً، إضافةً إلى أن العمل التحليلي النقدي اتكأ على مقولات منظري الحقل ورؤاهم وفلسفتهم ، ممن يشهد لهم بالريادة والتأثير النظري والعملي في حقل البرمجة. أما تناول العمل التحليلي النقدي، فهناك بعض الجوانب المتعلقة بالمتخصصين في البرمجة في العالم العربي الإسلامي، دون الدخول في مناقشة تفصيلية لآرائهم حيال البرمجة فلسفياً ونظرياً وتطبيقياً، مع إيمان الباحث بأهمية ذلك، لانطواء بعضها على ما يستوجب العمل النقدي الجاد.

ولتسهيل عرض نتائج البحث، فقد تم تقسيم البحث إلى ثلاثة محاور: المحور الأول يتعلق بالتعريف بالبرمجة من حيث تاريخها وأسسها ومبادئها وانتشارها وفعاليتها، ويتضمن المحور الثاني قراءة نقدية في أسس البرمجة، أما المحور الثالث فسوف يتضمن بعض الوقفات المنهجية والثقافية مع البرمجيين العرب.

أولاً: التعريف بالبرمجة

1. نشأة البرمجة ومفهومها
البرمجة حقل معرفي نشأ وتبلور في السبعينات من القرن الماضي الميلادي على أيدي مجموعة من المنظرين والفلاسفة الغربيين أبرزهما على الإطلاق الأمريكيين: ريتشارد باندلر (1950) Richard Bandler وجون جريندر (1940)John Grinder ، ويمكننا إرجاع البدايات إلى أوائل 1970م حين دعا بوب سبيتزر Bob Spitzer – وهو ناشر للكتب المتخصصة في مجال السلوك – ريتشارد باندلر إلى حضور برامج تدريبية كانت تقيمها كل من فريتز برلز وفيرجينيا ساتر -سنعرف بهما لاحقاً-، ثم طلب سبيتزر من باندلر أن يقوم بعملية تفريغ المادة العلمية لبرامج فريتز برلز من أجل تجهيزها للنشر، وقد كان باندلر آنذاك طالباً في مرحلة البكالوريوس في جامعة كاليفورنيا، وقد بدأ في تلك الأيام بالمشاركة ببعض ورش العمل والجلسات العلاجية في مجال العلاج الجشطالتي، حينها دعا باندلر الدكتور جون قريندر الذي كان أستاذاً مساعداً في اللسانيات، لمساعدته على نمذجة طريقته الخاصة في العلاج من خلال استخدام النظريات والنماذج اللغوية. وقد أثمر هذا التعاون بينهما الذي أمتد لعدة سنوات، وتوج بتأليف بعض الكتب التي تعد اللبنة الأولى في مجال البرمجة. وقد شاركهما في تأسيس هذا الحقل وتأطيره وتطويره عدد من المنظرين الآخرين أمثال: الكاتب والمدرب والمستشار الأمريكي روبرت ديلتس (1955) Rober Dilts، والمدربة والكاتبة الأمريكية جوديث ديلوزير (1947) Judith Delozier.

والرصد التاريخي للبرمجة يقضي بأن نأخذ في الاعتبار حقيقة أن هذا الحقل قد تأسس على بعض الرؤى الفلسفية لمجموعة من الفلاسفة والعلماء والمتخصصين الغربيين، وقد يكون ملائماً أن نتتبع على نحو مكثف أبرز المساهمين في حركة تطوير فلسفة البرمجة ومبادئها وتطبيقاتها في حركة التعريف بهذا العلم وظروف نشأته؛ إذ إن ذلك التتبع يثري تحليلنا التاريخي للبرمجة، من خلال التعرف على خارطة الأفكار المحورية، وبواعث التأسيس وسياقاتها التاريخية والجغرافية.

ويتعاطى حقل البرمجة مع الظواهر الإنسانية من خلال ثلاثة مكونات، هي: الجهاز العصبي Neuro واللغة Language والبرمجة Programming، وهذه المكونات الأساسية أعطت للحقل اسمه المعروف (البرمجة اللغوية العصبية) Neuro-Linguistic Programming (NLP) . وتشير الأدبيات إلى أن البرمجة تعني القدرة على اكتشاف واستخدام البرامج العقلية المخزنة في العقول، والتي نستخدمها في اتصالنا بأنفسنا، أو بالآخرين دون وعيٍ منا. أما اللغة فتشير إلى قدراتنا على استخدام اللغة بنوعيها الملفوظ وغير الملفوظ؛ للكشف عن أسلوب تفكيرنا وماهية اعتقادنا، وأنظمة الاتصالات اللغوية، وتشتمل على: الصور، والأصوات، والمشاعر، والتذّوق، والشم، واللمس، والكلمات. أما العصبية فيقصد بها الجهاز العصبي (العقل)، والذي يعمل على ترجمة تجاربنا حول المراكز الحسية، وهي: النظر، والسمع، والإحساس، والشعور، والشم، والتذوّق.

ولعلنا نورد هنا بعض التعريفات للبرمجة، مع الحرص على إثبات تعريفات كبار منظري حقل البرمجة وفلاسفته.
– يعرّف ريتشارد باندلر البرمجة بقوله: “البرمجة اللغوية العصبية اتجاه (أو توجه) و منهجية يخلفان أثراً من جراء تطبيق بعض التقنيات.”
– يقرر جون جريندر بأن البرمجة هي: “استراتيجية تعلم مسرعة لاكتشاف وتفعيل الأنماط في العالم المحيط بنا.”
– في حين يذهب روبرت ديلتس إلى أن “البرمجة اللغوية العصبية هي كل ما يحقق النتائج.”
– ويعضد هذه المعاني ما جاء في موسوعة البرمجة المُعَدّة من قبل اثنين من أبرز رواد البرمجة ومنظريها، وهما روبرت ديلتس وجوديث ديلوزير؛ إذ يقولان إن “البرمجة اللغوية العصبية مدرسة فكرية نفعية -فلسفة للعلوم- تعالج المستويات المتعددة في الإطار الإنساني.”
وسنعرض لتعريفات أخرى للبرمجة في سياق تحليلنا لبعض الأسس الفلسفية والثقافية والنفسية، وقد رأى الباحث أن عرض تلك التعريفات في تلك المواضع ألْيق وأكثر فائدة في الجانب التحليلي والنقدي، كما أن ذلك يجنبنا التكرار.
وتتكئ البرمجة على منظومة من الأسس المحورية تعرف بـ “أركان البرمجة” وتتمثل الأركان في الآتي: كفاءة الشخص الممارس للبرمجة؛ إذ يتوقف النجاح على مقدار كفاءته في استخدام تقنيات البرمجة وطرائقها، والالتزام بمبادئ البرمجة بوصفها “مسلماً بها” في تطبيق التقنيات المختلفة للبرمجة، والإجراءات التنفيذية، وتحقيق أعلى درجة ممكنة من الألفة Rapport مع العملاء عند ممارسة البرمجة، تحديد الهدف المراد تحقيقه بشكل واضح، وإرهاف الحواس لجمع المعومات المطلوبة لتحقيق الهدف المنشود، والتمتع بالمرونة، وذلك بتغيير التقنية المستخدمة في حالة فشلها.

2. مبادئ البرمجة:
بالرجوع إلى أدبيات البرمجة، يتضح لنا أن للبرمجة مجموعة من المبادئ الأساسية أو المسلمات Prepositions أو المعتقداتBeliefs والتي تعد بمثابة الفلسفة الموجهة للبرمجة، وتشمل مبادئ عدة نجملها فيما يأتي.
تنبثق استجابة الناس من خبراتهم وتجاربهم الشخصية وليس من الحقيقية المحيطة بهم، وهذا المبدأ تجسيد للفكر المحورية “الخريطة ليست الواقع”، كما أنه من المفضل أن تمتلك أكبر قدر ممكن من الخيارات والبدائل، إضافة إلى أن الناس دائماً يسعون إلى تحقيق أقصى ما يمكن في ضوء الخريطة الذهنية للواقع،كما يعمل الناس بشكل متقن وفق استراتيجياتهم التي يختارونها، غير أنه يمكن أن يخفقوا في تحقيق بعض النتائج من جراء الاختيار غير الموفق للاستراتيجيات. ولا ننسى أن للأعمال التي يقوم بها الناس أهدافاً محددةً، فضلاً على أن وراء كل سلوك إنساني نية إيجابية، أما العقل اللاواعي فهو يعمل على إيجاد التوازن مع العقل الواعي. ولا يتوقف المعنى في عملية الاتصال التي يقوم بها الإنسان على المعنى الذي يريده، بل على الاستجابة التي يتلقاها من الطرف الآخر في عملية الاتصال. ويسعى الإنسان إلى توفير كافة الموارد والطاقات التي يحتاجها، ويستطيع أن يوجد ما يحتاجه منها. كما يكوّن عقل الإنسان وجسده نظاماً واحداً يتفاعلان فيما بينهما، ويتبادلان التأثر والتأثير. ويعالج الناس كافة المعلومات من خلال حواسهم، مما يجعل تطوير حواسهم معيناً لهم على التفكير بشكل أفضل. أما نمذجة الأداء المتميز فهو يقود إلى تحقيق الامتياز (أي التعرف على الطريقة التي يستخدمها المتميزون ومحاكاتها من قبل الآخرين)، وبناء على ذلك إذا أراد الناس أن يفهموا، فإن عليهم أن يعملوا، فالتعلم إنما يحصل بالفعل وبذل الجهد.

3. انتشار البرمجة وفعاليتها
يعدّ كتاب الدكتور محمد التكريتي أولى المحاولات في نقل البرمجة إلى العالم العربي، وشارك مع الدكتور التكريتي عدد من المدربين في منتصف التسعينيات، في عقد العديد من البرامج التدريبية في منطقة الخليج، منهم الدكتور صلاح الراشد والدكتور نجيب الرفاعي. وقد بلغ عدد تلك الدورات المئات خلال فترة وجيزة، ثم انتشرت في بقية الدول كسوريا ولبنان والأردن ومصر. وشهد عام 2000 تأسيس الاتحاد العربي للبرمجة اللغوية العصبية على أيدي المدربين السابقين، هذا مع ملاحظة أنه في عام 1993 تم تأسيس الاتحاد العالمي للبرمجة The International NLP Trainers Association (INLPTA)، أي أن الفارق لم يكن كبيراً، قياساً على حركة نقل أو استيراد الأفكار في العالم العربي. وقد زاد عدد المراكز التي تخصصت في تنفيذ برامج التدريب للبرمجة في العالم العربي والتي تمنح شهادات التأهيل.
وبالنظر إلى حجم الانتشار الواسع وتعدد درجات التأهيل في البرمجة، تبرز الحاجة إلى تحديد مستويات الفعالية للبرمجة في مجال التدريب في عالمنا العربي والإسلامي.

والفعالية التي نؤمئ إليها في هذا المبحث، ونتطلع لأن تتسم بها البرمجة، وغيرها من برامج التدريب، هي فعالية من نوع خاص، ترتقي بالتدريب إلى درجة “الفعالية الحضارية”. وهذا اللون من التدريب، يسهم في تنفيذ برامج التطوير والتنمية لمشروع التحضر العربي الإسلامي، وتحقيق غاياته وتنفيذ مفرداته. وثمة شروط أساسية للتدريب الفعال حضارياً. وتحديدنا لتلك الشروط يعيننا منهجياً في الحكم على مدى فعالية التدريب للبرمجة، اعتمادا على ذلك المحك، ويمكننا اختزالها في شرطين كبيرين هما :

الشرط الأول مراعاة الخصوصية الثقافية: وذلك بوجوب مراعاة الفكر، والممارسة التدريبية للمنظومة الثقافية، والإطار الحضاري للمجتمع، والتناغم مع نزعته الابستمولوجية والفلسفية، والباحث يعدّ ذلك شرطاً رئيساً لنجاح التدريب في أداء وظائفه النفسية والفكرية والمهارية والعلمية بالنسبة للأفراد والمنظمات على نحو يمكّن من تحقيق الأهداف والتطلعات والرؤى. وهذا لا يعني ولا ينفي البتة أهمية وجود حركة تثاقف نشطة، وتبادل معرفي مستمر في مجال العلوم والتدريب، بين مختلف الثقافات. ولكننا نشدد على ضرورة وضوح الأنساق الثقافية على خارطة الإنتاج العلمي والفكر والممارسة التدريبية، والحرص على تحقيق الخصوصية الثقافية والحضارية للنهج التدريبي العربي الإسلامي.

أمّا الشرط الثاني فهو الإبداع، ويتوافر الإبداع على مجموعة من المهارات العقلية والخصال النفسية التي تمكّن الإنسان/المدرب من التحليق في فضاءات جديدة، وتكسبه القدرة التفكيرية والنفسية اللازمة للاقتحام الجريء والذكي، لحدود فلسفية ومنهجية ومعرفية جديدة، ليتوصل من خلال ذلك كله إلى إنتاج “الجديد المفيد” في مجالات التدريب والتنمية المتنوعة، التي باتت تمتلئ بالعلاقات التشابكية بين عوامل ومتغيرات على درجة كبيرة جداً من التعقيد، الأمر الذي يؤكد على أهمية اتصاف المدربين والباحثين في مجال التدريب بخاصية المرونة، والتي تعد من أهم خصائص المبدعين، بجانب خصائص الطلاقة والأصالة والحساسية تجاه المشكلات.

ثانياً: نقد أسس البرمجة:

1. في نقد الأسس الفلسفية والمنهجية للبرمجة
تتمحور نظرية المعرفة -أو الابستمولوجيا- أو ما يمكننا تسميته بـ”المعرفيات” في جوهر التساؤل الفلسفي الكبير: “عن ما يمكن أن نعدّه علماً أو معرفة صحيحة/ دقيقة/موضوعية” وحتى لا يعترض علينا البعض ممن لا يرى ولا يسلّم بأن صفات الصحة والدقة والموضوعية هي السمات الأساسية للمعرفة الإنسانية؛ دعونا نقل “المعرفة الإنسانية التي يُرى أنها قابلة للتفعيل في المحيط الاجتماعي، اعتماداً على أسس يتفق عليها مجموعة من الباحثين”. ومدخل المعرفيات -متجسداً بذلك السؤال الضخم- يستدعي بالضرورة وضع تعريف ضابط لـ “العلم” أو “المعرفة،” ومن ثم تحديد وسائل الحصول على المعلومات التي تشكّل بنية هذا العلم أو المعرفة، وكل هذا يجب أن يشتمل على تأطير حدود هذا العلم أو المعرفة، وتحديد صفات الرديء منه والجيد. وهذا السؤال بذاته مبحث فلسفي كبير لا يسعنا الخوض فيه، بل وليس ثمة حاجة إلى ذلك أصلاً في هذا البحث. غير أننا نثبت هنا حداً لتعريف العلم كما هو عند بعض فلاسفتنا الكبار، فالآمدي يقرر بأن العلم هو “صفة يحصل بها لنفس المتصف بها حقائق المعاني الكلية حصولاً لا يتطرق إليه احتمال نقيضه”، في حين أن الطوسي يذهب إلى أنه “ما اقتضى سكون النفس”، وسيكون هذان الحدان حاضرين في تحليلنا للبرمجة لنحدد: هل تسكن نفوسنا حيال الإشكاليات التي تثيرها في أبعادها الفلسفية والثقافية والنفسية، أو تظل قلقة بأسئلتنا ومطارحاتنا؟

وما سبق بيانه يجعلنا نشدد القول على وجوب أن نستفز العلوم والحقول المعرفية بشكل دائم؛ من خلال خزانة الأسئلة المعرفية التي تفنى فيها الأجوبة ولا تبقى فيها غير الأسئلة، تلك الفلسفة التي يجب أن نرتقي في ممارستها من طور استخدامها أداةً لا نعرف أسرارها، ولا ندرك خفاياها، إلى طور نكتسب خلاله القدرة على صناعتها، مستلهمين من إطارنا الثقافي وثوابته ومنطلقاته، فما يهمنا هنا هو الإشارة على عجالة إلى أهم الأسس والخصائص الفلسفية المعرفية والمنهجية، التي أرى أن حقل البرمجة قد تأسس عليها واصطبغ بها.

البرمجة والفلسفة البرغماتية
يقوم هذا الحقل على ما يسمى بالمنهج النفعي “البرغماتي”، وهو المدخل الذي يرى أن النفعية هي المعيار لتحديد المعرفة الإنسانية الصحيحة/الدقيقة أو التي تمتلك مقومات التفعيل في المحيط الاجتماعي. إنه منهج مشابه لما يفعله البسطاء في التعاطي مع العلاج بالأعشاب، فكل عشب ينفع مع مريض يمكن أن ينفع مع الآخر المشابه في الأعراض والشكوى، دون إخضاعه للتجربة بضوابطها المنهجية المحكمة. وكذلك يفعل المتخصصون في البرمجة اللغوية العصبية “أو البرمجيون – اختصاراً”؛ إذ إنهم يطبقون كل نموذج “يحقق النتائج” ، دون النظر في منطلقاته الفلسفية والفكرية أو صحته التجريبية. بل إن منظري البرمجة يعدون هذا واحداً من أهم مزاياها.

وهنا تثور أسئلة جوهرية مفادها؛ ما الخطأ في هذا المنهج النفعي الذي يتبناه حقل البرمجة؟ وهل سلم المنهج العلمي من الأخطاء، حتى نحاكم الحقول المعرفية له ونحكمها بها؟!
يمكننا تقديم الإجابة على الشطر الثاني من السؤال -لاعتبارات منطقية– وذلك بالقول إن المنهج العلمي بوصفه فكراً إنسانياً، لا يمكن الزعم مطلقاً بخلوه من المثالب والعيوب والصعوبات فلسفياً ومنهجياً وعملياً، غير أنه أسلم المناهج الذي يمكّننا من الحصول على المعارف الإنسانية واختبارها وتجريبها وإنضاجها فلسفياً أو علمياً أو معاً. وربما تتضح معالم هذا التميز والتفوق من خلال استعراضنا لبعض مثالب وعيوب ونتائج تبنيّ المنهج النفعي في الحقول المعرفية، مع الأخذ في الاعتبار أن التركيز سيكون على تلك التي لها صلة أكبر وأوثق بحقل البرمجة.
ومن أهم عيوب المنهج النفعي عدم إمكانية التحقق من نتائجه Verification باعتبار الصحة المنهجية/الفلسفية أو التجريبية، وباعتبار أثر هذه النتائج من حيث ديمومتها وطبيعتها وقوتها، وذلك لانعدام وجود معايير وطرق وخطوات منهجية وعملية للتجربة والقياس والتحقق. وفي هذا السياق نجد أن أسئلة ملحةً، كثيراً ما تعرض لمن يتدرب على البرمجة دونما إجابة مقنعة من البرمجيين. غير إيراد “مزاعم” عارية من كل دليل تجريبي أو برهان عقلي. ويقف على رأس هذه الأسئلة، عند كثير من المتدربين والمتابعين للبرمجة، مدى ثبوت وديمومة الأثر الذي يتحقق من جراء تطبيق إحدى تقنيات البرمجة.
ويرافق المنهج النفعي أيضاً، صعوبة تحديد من يمتلك حق التصديق أو “الختم”، على أن هذه المعرفة أو تلك نافعةٌ، أي أنها “معرفة تحقق النتائج وتحدث أثراً مرغوباً!”. وتتأكد الإشكالية في هذا السبيل، إذا ما روعي أن حقل البرمجة نشأ وطوّر على أيدي مجموعة من المنظرين الغربيين الذين يمتلكون خصائص فلسفية ومعرفية ونفسية و(كارزمية) مميزة. وفي هذا السياق يحق للمرء أن يتساءل: هل هذه الخصائص لهؤلاء المنظرين دون غيرهم؟ أهي معيارية توقيفية؟ أم يجب توافرها في كل من يروم تنظيراً وإسهاماً في البرمجة؟ وهل ُيفتح باب الاجتهاد “النفعي” لكل أحد دون شرط أو قيد ما دام أن الحقل يعتنق المبدأ النفعي؟ وهل يوافق من يرى أن “المشي على الجمر” تقنية برمجية نافعة؟ ولماذا لا يكون المشي على مسامير نافعاً أيضاً؟ وما المعيار في ذلك؟ أليس النفعية؟!

هذه الأسئلة – وأمثالها- تحتاج إلى إجابات “منهجية” (أو قل “مقنعة!” حتى لا يعترض علينا البرمجيون على استخدام منهجي) من منظري وفلاسفة المنهج “النفعي”. وبحسب قراءتي المتواضعة لأدبيات البرمجة، لم أقف على إجابات مقنعة على تلك الأسئلة الخطيرة. وهنا نتساءل مجدداً عن مدى إمكانية الظفر بإجابات من قبل البرمجيين العرب والمسلمين حيال هذه القضايا ذات البعد الأيدولوجي.
ينتج مما سبق مشاكل وصعوبات غاية في التعقيد والخطورة، منها: إشكاليات التعميم Generalization: وفي هذا النطاق تبرز عدة أسئلة، هل يمكن تعميم “نفعية” كل النماذج التي ثبت نفعيتها عند كل واحد؟ أو يلزم ثبوتها عند رواد الحقل ومنظريه وفلاسفته؟! وهل يمكن تعميم نتائج أو آثار التطبيق؟ وهل الأثر الذي تتركه تطبيقات البرمجة دائم أو مؤقت؟ وما المعايير في التفريق بين هذا وذاك؟ وأين دور “الثقافة” في التأثير؟ وهل يصلح المنهج النفعي للإجابة على مثل هذه الأسئلة أو أننا نحتاج إلى المنهج العلمي؟!.
وتقتضي الموضوعية بتقرير أن حقل البرمجة “يحاول” جاهداً أن يعالج مشكلة التعميم لدى المتدربين من خلال تقنيات وتطبيقات عملية متنوعة. وهنا نشير إلى أن هذه المحاولة تعد بحق من أنفع طروحات الحقل، ذلك أنها تكسب المتدرب صفتي “المرونة” و”اليقظة” في التفكير والممارسة. غير أن البرمجة فشلت في تبني منهج تحاول، عادة، إكسابه غيرها، وهنا تتجذر الإشكالية المنهجية.

ومن هذه الصعوبات أيضاً انعدام التراكمية: يفضي التحليل المنطقي إلى استنتاج تلقائي مفاده: أن استمرار هذا الحقل على المنهج النفعي -على افتراض إمكانية استمراره أصلاً- سيؤدي إلى إنتاج تراكم معرفي، أو “أخلاط” معرفية لا تنتظم بأي إطار فكري أو فلسفي يمكّن من تقييم النماذج والتطبيقات المبعثرة في خارطة الحقل؛ إذ ستتراكم أكداس من التطبيقات التي ربما يعارض بعضها بعضاً، أو يلغي بعضها أثر بعض. وهنا تتضح أكثر فأكثر بعض المشاكل لاسيما في الحقل الثقافي، وفي تلك المرحلة ربما تزداد أصوات المطالبين بمزيد من الحزم “المنهجي” – بشقيه الثقافي والفلسفي – في التعامل مع هذا النثار المعرفي.
ومثل هذا الاستعراض السريع يعطي مؤشرات يتحفظ من خلالها على تبني المنهج “النفعي” في الحقول المعرفية، بل ومما يثير الدهشة فعلاً أن رواد البرمجة لم يكتفوا بتبني هذا المنهج وعدّه إيجابيةً و”مكسباً” لهذا الحقل.

وربما يعطي هذا التقدم لحقل البرمجة مع استخدام المنهج النفعي دلائل وإشارات إلى أهم أوجه ضعف “المنهج العلمي”، والتي تتمثل – في رأيي – في عدم إعطاء المرونة الكافية، مما يحد أحياناً من قدرة العالم والباحث على الإبداع في التعاطي مع العلم والمعرفة إنتاجاً ونقداً، لاسيما داخل الرواق الأكاديمي “الأكاديميا”، ذلكم الرواق الذي يحتاج منّا أيضاً إلى وقفة نقدية تنقحه. ومثل هذا النقد يتأكد إذا سلمنا بأن أكثرية علماء وباحثي العلوم الاجتماعية في العالم العربي، مصابون بداء أُسميه بـ”السلفية للذهنية الغربية”، تلك السلفية المقيتة تتعدى أطر الإفادة مما يمكننا تسميته بـ “المنهجيات الصلبة” (والتي يمكننا تشبيهها بالأوعية أو الأواني التي تنقل الأطعمة والأشربة) والمتضمنة الإجراءات “العملية” في البحث والقياس، إلى نسخ “المنهجيات الرخوة” (وهي الأطعمة والأشربة ذاتها!) والمتمثلة في الفلسفة “الأيدلوجية” والتي تنقل في أغلب الأحيان إلينا أفكاراً ميتة وأخرى ُمميتة في محيط الثقافة .

وبناءً على ذلك، تصبح لدينا ضرورة ماسة لممارسة نقدية واعية للمنهج العلمي وتطبيقاته، وكافة المناهج المنافسة وتطبيقاتها، بغية الوصول إلى منهج علمي يعصم التفكير الإنساني من الخطأ المنهجي –قدر المستطاع– ليزيد من إنتاجه، ويستفز إبداعه؛ بما يستلزمه ذلك من بلورة وإنتاج لمصطلحات ومفاهيم فلسفية عميقة، تضيف أبعاداً وأدوات تفكيريةً خلاقة تقود إلى اختراق فضاءات معرفية جديدة، وتطوير لأدوات قياس علمية للظواهر الإنسانية والاجتماعية، تحظى بالثبات والصحة Reliability & Validity. ونحن إذ نقرر ذلك، يتوجب علينا التأكيد على حتمية انبثاق هذا المنهج واهتدائه بمنطلقات فكرنا الإسلامي الأصيل وأسسه.

النسبية “المطلقة”
طبقاً لمنظومة قيم البرمجة، تتبنى البرمجة مبدأ “النسبية” في تحصيل العلم أو المعرفة بما يتضمنه ذلك من: التفكير، الإدراك، التحليل، الفهم؛ إذ تؤمن البرمجة باستحالة الظفر بـ “المعرفة أو الحقيقة الموضوعية” من قبل أي إنسان!
وهذا يجعلنا نرجع هذه الفلسفة ونربطها بفلسفة أخرى، وهي ما يعرف بالفلسفة “التركيبية”Constructionism. وتؤمن هذه الفلسفة بأنه لا يمكن للإنسان أن يظفر بمعرفة موضوعية؛ ذلك أن المعرفة لا يمكن فصلها عن الإنسان فكراً وقيماً، وهي تتشكل بحسب رؤية الإنسان وتركيبه لها في خضم التفاعل الاجتماعي. وأدت هذه الفلسفة التركيبية -حتماً- إلى ثغرات ضخمة، من أبرزها مغالاتها في النسبية المطلقة، أو فلسفة “كل شيء مقبول”، كما أن بعض الباحثين الغربيين أنفسهم يتهمون التركيبية بأنها أزالت الفرق بين المعرفة “المنظمة” التي يكتسبها الباحث -أو العالِم- عبر منهجيته، وتلك التي يكتسبها الرجل العادي عبر “اللامنهجية”!

وبناءً على ما سلف ذكره، نستطيع أن نتلمس في هذا المدخل ضِيقاً وتطرفاً واضحاً؛ إذ إن المعارف تتفاوت من حيث كنهها وخصائصها ووظائفها ومصادر الحصول عليها، لدرجة تجعلنا نرفض هذا التقييد “المتطرف” للمعرفة الإنسانية. أي إننا نؤمن بأنه يمكن لنا أن نظفر بمعرفة “موضوعية” يتفق على صحتها مجموعة من الناس، اتكاءً على معايير محددة، بجانب تلك المعرفة “الشخصية” والتي تتلون “بنظارتنا” النفسية أو الحضارية في إطار من التفاعل الاجتماعي، على المستويين الفردي والجمعي.
وهذه المدرسة التركيبية جاءت رِدّةَ فِعْلٍ لمغالاة الفلسفة الوضعية Positivism في تبني الطرق “الموضوعية” Objectivism وهي أدوات العلوم التجريبية؛ إذ إنها الطريق الأوحد الذي يمكّن الإنسان من الحصول على معرفة موضوعية، يمكن اختبارها وتجريبها على حد زعم هذه الفلسفة. كما أنها تزعم بأن البحث العلمي يجب أن يكون مجرداً من الإطار القيمي، ولذا فهي تؤسس لقبول الواقع كما هو، وعليه فإنها لا تعتد -مثلاً- بالعلوم الدينية “الشرعية” المستقاة من الوحي المطهر، لانتفاء شرط الاختبار والتجريب فيها، بل تَعُدّها علوماً ميتافيزقية.

قراءة في التفكير المنظومي
تزعم البرمجة أنها تتبنى مدخل “التفكير المنظومي” Systems Thinking في معالجتها للظواهر الإنسانية؛ إذ إنها تدّعي أنها تعالج الظاهرة المعينة بوصفها نظماً جزئيةً Subsystems في إطار نظام شمولي Holistic System، وفي هذا السياق يذهب أصحاب موسوعة البرمجة روبرت ديلتس وجوديث ديلوزير، إلى أن هذا اللون من التفكير سمة أساسية وفائقة في البرمجة، بل إنهم يرون هذا المدخل، واحداً من أهم مسلّمتين في البرمجة. وهذا المدخل ينص على أن الحياة والعقل عمليات منظومية. وعند النظر في أدبيات البرمجة وتطبيقاتها، نجد أن مثل هذا الزعم باطل وغير متحقق، بل إن ما يناقضه هو المتحقق؛ إذ إنها تتبنى منهجاً تجزيئياً تبسيطياً عند تعاطيها مع الظواهر الإنسانية، ربما بحجة تحقيق صفتي “العملية” و”النفعية” التي يؤكدون على أهميتهما. وحتى لا يكون هذا -أي ما قررته- زعم أورده فحسب، فإنه يتعين علينا أن نأتي ببعض الأدلة والأمثلة.
من ذلك أنهم حين يمارسون مثلاً تقنية الإرساء Anchoring، لا يهتمون بالخلفية النفسية والاجتماعية للعميل / المتدرب؛ بوصفها نظماً جزئية في إطار شمولي، وحينما تذكّرهم بأهمية ذلك يقولون لك: لدينا شيء في البرمجة اسمه البرامج العلياMeta Programmes تراعي مثل تلك القضايا!!، ونحن نتساءل هنا:لمَ لا يتم تفعيل البرامج العليا عند تطبيق هذه التقنية أو تلك؟ أم أن السبب يعود إلى أن ذلك يجر عليهم تعقيدات “نظرية” لا طائل من ورائها؟! وبناءً على ذلك ألا يوقفهم هذا على تعقد الظاهرة الإنسانية، وسطحية المنهج النفعي؟

2. في نقد الأسس الثقافية للبرمجة

فلاسفة البرمجة اللغوية العصبية يريدونها “أيدولوجية حياة”!
يعتقد البعض أن البرمجة حقل معرفي يعالج بعض الظواهر الإنسانية فحسب، وهو الأمر الذي كنت أعتقده في بداية اطلاعي على البرمجة –منذ ما يقارب أثني عشر عاماً- ولكنني بدأت أتلمس خيوطاً جعلتني أتشكك في هذا الفهم “المبدئي”، وأتساءل عن سر هذه الفلسفة، التي بدت وكأنها تحمل بين طياتها بعداً (أيدولوجياً) عميقاً. وربما يكون مفيداً أن أشير إلى أنه ثمة مجموعة من الأسباب تفاعلت في ذهني، بعد اقترابي من “الحدود الفلسفية” للبرمجة، وجعلتني أخلص إلى نتيجة مغايرة، وذلك لعدة أسباب منها:
أن البرمجة تؤمن بتأثير الإطار القيمي والفلسفي، وتأثير ذلك على السلوك الإنساني، ولذا فالبرمجة تؤكد على أهمية مراعاة ذلك في منهجها وتطبيقاتها. وهنا نتساءل عن الأطر القيمية الفلسفية للبرمجة: هل هي الأطر العربية الإسلامية؟! بالـتأكيد لا. هل هي الأطر الغربية؟ بالتأكيد نعم. إذن تستحق هذه وقفة وتسجيل، إضافة إلى أنها تزعم أنها تعالج كافة الظواهر الإنسانية حتى الروحية منها. وفي هذا المعنى يقول صاحبا الموسوعة (روبرت ديلتس وجوديث ديلوزير): إن بحث بنية الخبرة الروحية واستكشافها، قضية في غاية الأهمية بالنسبة للبرمجة اللغوية العصبية ، كما أنها تعرض نفسها كإطار ابستمولوجي (معرفي) شامل. والابستمولوجيا -كما أقرأها في أدبيات الفكر الغربي- هي فلسفة من نوع “ثقيل”، أي أنها ذات طابع أيدولوجي.
ومما يدلل على البعد الأيدولوجي -وبوضوح- أن الأطر الابستمولوجية للفلسفات الغربية تؤسس مناهج بحث ذات بعد أيدولوجي كالفلسفة الوضعية والفلسفة التركيبية وغيرها. ومما يؤكد على البعد الأيدلوجي للبرمجة أن منظري البرمجة وفلاسفتها وكتّابها، يعرضون مبادئها وافتراضاتها بوصفها عقيدة، وفي هذا المعنى يقول – مثلاً – اوكونور O’Connor عن تلك المبادئ والافتراضات: “إنها الفلسفة الموجهة للبرمجة، إنها عقيدة للبرمجة… إنها تشكل مجموعة من المبادئ الأخلاقية للحياة.”

ومن هنا خلصت إلى نتيجة “خطيرة” مفادها أن البرمجة تعدت كونها حقلاً معرفياً يعالج بعض الظواهر الإنسانية، إلى الإدعاء بأنها فلسفة “حياة” شاملة. وهنا تتضح أبعاد الخطورة -إن سلم لي بهذا- وذلك بمزاحمة البرمجة ومنافستها لـ “الدين”، المكّون الأساسي في بنية حياة المسلم والمشكّل الرئيسي لحضارته. وربما يتأكد هذا المنحى الخطير للبرمجة، بالنظر إلى بعض التعريفات التي ساقها بعض منظري (أو فلاسفة!) البرمجة، والتي تتسم -برأيي- بالبُعد الإيدولوجي، كما أن في بعضها قدراً كبيراً من العمومية والضبابية لغرض أو لآخر. ولإيضاح ذلك نورد بعض التعريفات التي انطوت على هاتين السمتين. وطلباً للاختصار أكتفي بثلاثة تعريفات:
– يعرف جون جريدنر البرمجة بقوله: “البرمجة اللغوية العصبية هي الابستمولوجيا التي تعيدنا إلى الحالة التي افتقدناها حالة الامتياز!.”
– بينما يقول روبرت ديلتس و جوديث ديلوزير في الموسوعة: إن “البرمجة اللغوية العصبية علم سلوكي يقدم: (1) ابستمولوجيا – نظام للمعرفة والقيم، (2) منهجية – عمليات وإجراءات لتطبيق المعرفة والقيم، (3) تقنية – مهارات للمساعدة في تطبيق المعرفة والقيم.”
ويواصل روبرت ديلتس و جوديث ديلوزير القول بأن “البرمجة اللغوية العصبية ليست فقط عن الكفاءة والتميز، ولكنها عن الحكمة (الفلسفة) والرؤية.”
البرمجة اللغوية العصبية تؤلّه الإنسان “السوبر” الخارق وتجففه إيمانياً!
يؤكد منظرو البرمجة ومؤيدوها على أنها تساعد الإنسان في التعرف على طاقاته المخزونة، كما ترشده إلى كيفيات مقترحة تمكنه من تفجير هذه الطاقات. ومن الجدير بالقول إن البرمجة نجحت –جزئياً- في هذا المجال بشكل يستحق التنويه. كما تجدر الإشارة إلى التأكيد على أهمية هذا المنحى التعريفي التشجيعي في التعاطي مع طاقات الإنسان المسلم -وبالذات العربي- في زمننا هذا، وذلك لتعرض المسلم -وتحديداً العربي- إلى ألوان من الإهانة “النفسية” بعضها مدروس ومبرمج ومؤدلج وبعضها الآخر عشوائي.
مثل تلك الإهانات تعمد إلى برمجة المزاج العربي، والعقل العربي، والنفسية العربية، عبر تكريس “صور ذهنية مركزة” وتشكيلها نفسياً وذهنياً لتتحول إلى ما يشبه الحقائق عند بعض الشرائح Stereotype. هذا التشكيل يحدث من جراء متاريس ثقافية ضارة وربما معادية سواء كانت داخل الفضاء العربي أم خارجه. و تحاول هذه الإهانات المتكررة أن ترسخ سطحية العربي وجهله وكسله وخشونته الحضارية. وهذه الإهانات ترتدي أحياناً رداء البحث العلمي الجاد، تحت شعارات متعددة، منها: تركيبة العقل العربي، سيكولوجية الرجل العربي، وبنية المجتمع العربي… . ويدخل في الأطروحات التي تقلّل من شأن “العربي” ما يسمى بـ”المثقفين الكارهين ذواتهم”، والتي تقوم بعملية كبح -أي طرد للمعلومات غير السارة- لأي معلومة إيجابية عن الإنسان العربي، بل وتذهب بعض تلك الأطروحات إلى نسف المنجز الحضاري العربي الإسلامي برمته، دون إبراز أي دليل أو برهان علمي. ويرى الباحث أن الأثر النفسي لمثل تلك الأطروحات، يمكن أن يكون كبيراً ومدمراً، لاسيما أن الآلة الإعلامية تتلقف ذلك، وتضخمه، وتكسبه بعض (الكارزمية) الفكرية لأسباب متعددة، وهذا يتطلب أبحاثاً تحليلية نفسية إعلامية متخصصة.
إذن نحن نقر بأهمية شحذ “البطارية” النفسية للإنسان العربي/ المسلم، وتعريفة بطاقاته الكامنة وسبل تفجيرها، لاسيما إن كنا نقر بوجود شيء من الضغط النفسي والفكري على الإنسان العربي/ المسلم، كما أننا نقر ونؤكد على حقيقة امتلاك الإنسان لمخزون هائل من الطاقات الكامنة، والتي تجعل منه – بشرط الاهتداء بالمنهج الرباني- خليفة يعمر الأرض ويشيد الحضارات الراشدة التي ينعم بها، شاعراً بلذائذه الفطرية والمكتسبة، ومحققاً بها ذاته، ومتمتعاً بحريته وانطلاقته في فضاءات الفكر والإنتاج والتفاعل مع بني البشر، وناشداً تحقيق أكبر قدر ممكن من التوازن بين روحه وعقله وجسده، ومريداً بذلك كله تحقيق العبودية الخالصة لربه ومولاه تبارك وتعالى.
كما أننا نقر بإسهام البرمجة -وببراعة عملية- في تعريف الإنسان بطاقاته وتفجيرها، غير أننا نلحظ، في الوقت ذاته، مظهراً بل منهجاً وفلسفة تؤمن بها البرمجة، وتبني عليها إطارها الفكري، ومداخلها العملية، في اتجاه تفعيل طاقات الإنسان. وهذه الفلسفة لها خطورتها البالغة على البعد الإيماني، مما يجعلنا ندرك أن إيجابيات البرمجة وإنجازاتها في هذا الاتجاه، ربما تغوص وتغمر في محيط متلاطم من السلبيات والثغرات الخطيرة التي تتجه بالإنسان إلى “الركون” و”الاغترار” بقدراته الذاتية، وقدراته فحسب، دون توكل قلبي وارتباط وجداني بالخالق، العظيم، المدبر، المهيمن، الرزاق، الخافض، الرافع، تبارك وتعالى.
وهنا يجب علينا الإشارة إلى أن محاولات البرمجيين العرب -المشكورة- الرامية إلى تطعيم البرمجة بـ “مصل إيماني” -عبر بث بعض الآيات والأحاديث والآثار والأشعار والقصص- قد أسهمت بترطيب يبوسة البرمجة نوعاً ما، إلا أن الناظر والمتدبر والمستمع للبرمجة يحس بخشونتها الإيمانية ويلمس نواحي الجفاف الروحي، وهنا يحق لنا أن نتساءل -متعجبين- :
لماذا لم تفلح محاولات البرمجيين العرب في الحد من غلو وجفاف البرمجة في البعد الإيماني؟!
نستطيع الإجابة؛ بأن هذه المحاولات إنما هي ترقيعية تجزيئية، فسمة الجفاف الإيماني للبرمجة، وتعظيم قدرات الإنسان، سمة طاغية على لونها ونَفَسِها العام، متغلغلة -بخفاء- إلى أطيافها وتفاصيلها، مما جعل تلك المحاولات -في رأيي- تبوء بفشل عام، بحسب ما أراه في الكتب أو “النسخ” النظرية لأولئك البرمجيين وتطبيقاتهم العملية. ويمكن أن يعد هذا -إن تقرر وُسلّم به- مظهراً من مظاهر تأثير البيئة الأصلية والمناخ العقدي الفلسفي العام على نشأة العلوم والحقول؛ وتأثيرها على بنيتها وإطارها ونفسها وتوجهها وغايتها وثمرتها.
إذن يمكننا القول بأن البرمجة تتجه إلى تعظيم الإنسان “الخارق” وتجفيفه إيمانياً، ولا نتوقع أن تفلح محاولات ترقيعية ضعيفة -كالتي أشرنا إليها- في تحقيق أي تقدم يذكر على الأرضية الحالية للبرمجة؛ إنها تشبه من يجلب نخلة طيبة مثمرة، حاملاً إياها على كتفه، يروم أرضاً يباباً هناك، مع علمه بأنها ليست لها أرضاً ولا مناخاً ولا سقياً. نعم البرمجة -بوضعها الراهن- مستعصية على محاولات هزيلة كهذه.
وبهذا نستطيع القول بأننا نحتاج إلى نوع آخر من التفكير… مستوى أعلى من التفكير… يمكّننا من الغوص في إشكاليات وبنية الفلسفة التي تتأسس عليها البرمجة، مع أدوات منهجية استنباطية استقرائية تحليلية في مكونات الفكر الإسلامي ومنطلقاته. ولعلي أعرض لاحقاً بعض القضايا في هذا الاتجاه، علّها تصلح لأن تكون ولو خطوطاً عريضةً للتعاطي مع هذه الإشكالية الكبيرة.

البرمجة اللغوية العصبية “فلسفة مغرورة”!
اتضح مما تقدم أن البرمجة تحاول أن تقدم نفسها حقلاً معرفياً يتناول كافة الظواهر الإنسانية بالتحليل والعلاج، ولم تكتف بهذا، بل راحت تعد بتقديم أفضل الحلول وأسرعها، تهويلاً ومبالغةً، وقد انعكس هذا المسلك المشين بجلاء على جملة البرمجيين في كتاباتهم وتطبيقاتهم؛ إذ احتقروا وقلّلوا من شأن بقية الحقول المعرفية وإسهاماتها الضخمة في التعاطي مع مختلف الظواهر الإنسانية.
وهذا لون من الغرور الذي لا يستساغ أن يصطبغ به حقل معرفي، بل من غير المبرر أن يصدر عن طلاب العلم وباحثي المعرفة؛ إذ يعد مؤشراً جلياً لانعدام أو ضعف المصداقية العلمية والبحثية. ومن المزايا الأساسية للعلم في الفكر الإسلامي، التواضع للحق، والتواضع للناس، تواضعاً قلبياً وجدانياً نفسياً؛ يجد الإنسان فيه نفسه ضعيفاً في فهمه، ضعيفاً في تحصيله للمعلومات والمعارف، ضعيفاً في تحليله، ضعيفاً في استنباطه واستقرائه، ضعيفاً في تنظيره وتطبيقه…، فهو تواضع صادق يثمر سلوكاً عملياً حميداً، بالبحث المستمر عن الحقيقة والعمل الدؤوب لإنضاج الأفكار وتلقيحها، من خلال الجهود والإسهامات التراكمية للآخرين.
وبناءً على ذلك، كيف نفسر سر سقوط جملة البرمجيين العرب في فخ الغرور والتهويل والمبالغة؟ وهل يعود السبب في ذلك إلى قناعات نظرية؟ أو أسباب برغماتية؟ أو خليط بين هذا وذاك؟ هل ثمة سبب آخر لا نعرف كنهه؟ لا أملك جواباً، غير أنه يسعني التساؤل ويكفيني طرح الإشكالية.

3. في نقد الأسس النفسية للبرمجة

التجزيئية في الإطار النفسي
تتسم البرمجة بتجزيئية ضيقة في التعاطي مع الظاهرة العجيبة “الإنسان”، روحاً وعقلاً وجسداً؛ وإيماناً وكفراً، ورشداً وضلالاً؛ واعتدالاً وتطرفاً؛ وكسلاًَ ونشاطاً؛ وإقداماً وإحجاماً؛ وارتفاعاً وانخفاضاً؛ ونجاحاً وإخفاقاً؛ وأملاً ويأساً، وعلماً وجهلاً؛ وتجرداً وتحيزاً؛ أكثر ذكاءً وأقل ذكاءً؛ وأكثر مهارة وأقل مهارة؛ ومنتمياً وغير منتمٍ؛ وغنىً وفقراً ؛ وفردياً وجماعياً؛ ورجلاً وامرأةً؛ وطفلاً، وشاباً، رجلاً، وشيخاً، وكهلاً؛ إذ يمتلك هذه الخلطة من أنماط التفكير أو تلك…
وكل هذه التقاطعات تؤكد على تعقد الإنسان ظاهرة ونظاماً، لدرجة من التعقيد استحقت معها توجيهاً ربانياً كريماً لبني الإنسان بأن يتفكروا في أنفسهم، يقول الحق تعالى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (الذريات: 21). ومع كل هذا التعقيد نجد أن البرمجة عالجت الإنسان بوصفه أجزاء متناثرة -كما سبق توضيحه وبيانه سابقاً-، وهو ما سنقيم عليه الدليل من خلال الأمثلة التي سنعرض لها لاحقاً.

البرمجة تكتشف “الإنسان الأزرار”!
ويضاف إلى هذا الخلل الكبير في التعاطي مع الإنسان خلل لا يقل سوءاً وخطورةً، ذلك أن البرمجة تتعامل مع الإنسان في بعض مناهجها وتطبيقاتها تعاملاً “ميكانيكياً”، وبعبارة أخرى يمكننا القول إن البرمجة اكتشفت “الإنسان الآلة” أو “الإنسان الأزرار”!، الذي يمكن تحريكه بأي اتجاه. كما يمكن تنمية إنتاجه وفعاليته وكفاءته من خلال لمسة سحرية لا تكلف أكثر من “ضغطة”، من خلال ما يسمى في البرمجة بـتقنية “الإرساء” Anchoring. أي أن البرمجة تزعم أنها تحيلنا إلى “إنسان متفوق” في مجال أو آخر عن طريق ممارسة تقنية الإرساء وتطبيقها.
فمثلاً يمكنك استدعاء مشهد من “خزان” ذاكرتك، وليكن مشهداً كنت فيه متألقاً في خطابك وإلقائك مع ثقة كافية، هنا يأتي إليك البرمجي “ليبرمجك” على هذا الوضع من خلال تمرين تدريبي تكون فيه في حالة من “التطابق” مع صورة ذلك المشهد أو الحدث، تستصحب ذلك الاستغراق في هذا المشهد إلى لحظة زمنية معينة، لتقوم بعدها بإرساء أو تثبيت هذا السلوك من خلال -على سبيل المثال- ضغطة على معصم يدك اليسرى. البرمجة تقول لك إنها “تضمن” -في حالة “نجاح” عملية الإرساء- أنك قادر على الوصول إلى الدرجة نفسها من التألق والتميز في الخطابة والإلقاء في مستقبل أيامك بإعادة تلك اللمسة أو الضغطة!
وربما يكون مفيداً إيراد مثال آخر على القدرة “الفائقة المزعومة” للبرمجة في هذا المجال. فللبرمجة دائرة يسمونها بـ “دائرة التميز” Circle of Excellence، وبطريقة مشابهة يمكنك أن تضمن تميزاً في بقية مشاهد عمرك وذلك فيما يتصل بالمهارة المتضمنة في الخبرة التي قمت بإرسائها من خلال دخولك في دائرة تسميها -أنت- بدائرة التميز!.
ومع أنني مؤمن بأن الإنسان أعقد من ذلك وأكرم وأجل، أتساءل: وما دليل البرمجة على هذا الزعم؟ وهل الأثر دائم أو مؤقت؟ ثم أتساءل في اتجاه آخر، هل يمكن لك أن تأتي “كمبرمج!” لإنسان “يحترم ذاته” وتقول له اضغط هنا أو هناك حتى تظفر بنتيجة أو أخرى؟ ما نوعية البشر الذين يتقبلون مثل تلك المعاملة الميكانيكية؟ وبماذا تمتلأ قلوب أولئك البشر: بالتوكل الشرعي على الله تعالى بعد استنفاد الوسع أم بالافتقار إلى بعض الضغطات السحرية؟ وهل هذا المدخل الميكانيكي يعلي من شأن الإنسان المكرّم ويعمّق تفكيره وعمله وإيمانه؟ أو يهينه ويسطّح تفكيره ويجفّف إيمانه؟

البرمجة تعبث بـ “الأسلاك الداخلية” للإنسان!
مظهر آخر خطير للبرمجة في السياق النفسي يتمثل في أن البرمجة تتعامل مع الظواهر الإنسانية من “الداخل العميق” من خلال ما يسمى في البرمجة بـ “النميطات” Sub-modalities، أي بطريقة داخلية مؤثرة، تقوم على بناء ثقة كبيرة بين البرمجي والعميل/المتدرب، في حين يصل البرمجي في بعض الأحايين إلى لمس وتحريك كوامن النفس وطاقاتها وانفعالاتها وأحاسيسها، خاصة تلك القابعة أوالمدفونة في اللاشعور، وهذا اللمس والتحريك يتجه أحياناً لأصغر مكون نفسي أو ما يمكننا تسميته بـ “النُّفيس” بوصفه أصغر وحدة قياس نفسية، وبعبارة أخرى نقول إن البرمجة تقوم بما يمكننا تشبيه بـتحريك “الأسلاك الداخلية” للنفس البشرية.
والحقيقة تحتم علينا الإشارة إلى أن هذه القدرة الفائقة للبرمجة في لمس الأسلاك الداخلية، تعد ميزة حققتها هذه البرمجة على نحو مميز، غير أن الخطورة تكتنف هذه القدرة وتحفها من أكثر من جهة وزاوية، لاسيما إذا أخذنا في الاعتبار بعض الأمور المصاحبة لهذا العمل؛ إذ إنها لا تعترف بخطورة وحساسية لمس الأسلاك الداخلية، ومن ثم ضعف أو انعدام استعدادها الفكري والتطبيقي لآثار هذا الفعل ومقتضياته إضافة إلى ضعف استيعاب البرمجي للحالة النفسية والاجتماعية للعميل/المتدرب، وعدم مراعاة ثقافته، وميوله، وقدراته، وأوجه قوته، وضعفه، وما إلى ذلك. كما أنها ضعيفة في تأهيل بعض البرمجيين، أو عدم مناسبة المخزون الفكري لديهم أيدولوجياً أو منهجياً للتعاطي مع هذه القضية الخطيرة . إن لمس بعض الأسلاك الداخلية “قد” يؤثر على البعض الآخر، و”ربما” بشكل سلبي مع عدم أخذه في الحسبان، وهذا الأثر يمكن أن يحدث ولو بعد حين. غير أن البرمجيين لا يبدون أي اهتمام لمثل هذه الآثار؛ إذ المهم عندهم “فقط” أن تحقق تطبيقاتهم “بعض النتائج”، وهذا يكشف مظهراً خطيراً آخر للمعالجة التجزيئية للظواهر الإنسانية التي تتبناها البرمجة، كما يبرز بعض معالم ضعف المسؤولية الفكرية والاجتماعية والنفسية للبرمجة كبعد أخلاقي للحقل، فالبرمجة والبرمجيون لا يتورعون عن معالجة الكثير من الظواهر الإنسانية وعلى نحو جازم وبنفسية وثوقية حادة.

قد يقال هنا إن ما قرره الباحث يفتقر لمزيد من الأدلة المقنعة، أو أنه غير مقنع على الإطلاق، وأظن أن هذا مطلب مشروع، ومناقشة منهجية سائغة، بل واجبة، ولكننا نتساءل في السياق عينه: ألا يدل هذا على حاجتنا إلى تبني المنهج العلمي في التعاطي مع هذه الظواهر الإنسانية المعقدة، بدلاً من منهج “إنه يعمل ويؤثر!”، لبحث مثل تلك القضايا المعقدة؟! وهل يتوافر المنهج النفعي على القابلية للنظر في هذا القضايا ومناقشتها منهجياً؟ أو أنها خارج نطاق قدراته واهتماماته أصلاً؟!
هذه الأسئلة جديرة بالطرح، ويجب على من يتبنى المنهج النفعي التصدي لها، ونحن بذلك ندعو فلاسفة البرمجة ومنظريها كما ندعو البرمجيين العرب إلى التعاطي مع هذه الإشكاليات والجدليات وعدم تجاهلها؛ إذ إن تجاهلها لا يغير من الحقائق شيئاً، كما أنه لا يزيل الآثار الخطيرة التي قد تترتب على تبني المنهج النفعي على النحو الذي بينّا طرفاً منه.

في تفاصيل البرمجة مصادمة لبعض النصوص الشرعية
يتبين من المحاور السابقة أن البرمجة تتوافر على ما يعارض روح الفكر الإسلامي والفلسفة الإسلامية، وهذا البحث الإجمالي وإن كان في رأيي، يكفي لإصدار حكم عام على البرمجة، إلا أننا مطالبون بالقيام بأبحاث تفصيلية تستهدف نقد البرمجة -أدبيات وتطبيقات- في ضوء النصوص الشرعية، قرآناً كريماً وسنةً شريفة.
ومع أن هذا البحث لا يروم القيام بهذه المهمة العسيرة، فأنني أشير إلى قضية واحدة كمثال في هذا الاتجاه. فمما أرى أن فيه مصادمة لما أفهمه من النصوص الشرعية، ما يتعلق بالمبدأ أو الافتراض الذي تؤمن به البرمجة، والذي يُعدّ من أهم مبادئها وافتراضاتها “الأيدولوجية”، هذا المبدأ أو الافتراض يقضي بـ: “أن وراء كل سلوك نية إيجابية .”
فالباحث لا يرى أن هذا يتوافق مع مقتضى بعض النصوص الشرعية. فمثلاً يقفز إلى الذهن في هذا السياق بعض النصوص القرآنية الكريمة التي تحدثت عن الهوى بوصفه دافعاً ومحركاً للسلوك الإنساني، كقوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (الجاثـية:23)، وقوله مخاطباً النبي الكريم داود عليه الصلاة والسلام: يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه (صّ: 26)، وقوله: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (النازعـات: 40)، وقوله: فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى (النساء: 135).
هذه النصوص وأمثالها تشير إلى حقيقة الهوى، وتأثيره الهائل على السلوك الإنساني، إلى أن بلغ الأمر تحذير الأنبياء المعصومين من الوقوع في حبائله. إذن يمكن لنا أن نقرر بعد هذا البيان القرآني الجلي، أن أية محاولة -مباشرة أو غير مباشرة- للتقليل من أثر الهوى، هي ذاتها أشد أنواع الهوى عمىً وتحيزاً. وهنا ندرك وبجلاء وجوه التعارض بين معالجة البرمجة للسلوك الإنساني على أنه نتيجة لنية طيبة،ومدلولات الهوى في القرآن الكريم ومغزى التركيز القرآني عليه.
ولعله من السائغ وربما الواجب توجيه بعض الأسئلة للبرمجة إزاء الهوى، لنستكشف كنه الهوى وكيفية توصيفه في ضوء فلسفة البرمجة. من تلك الأسئلة ما الهوى؟ ما حقيقته؟ ما تأثيره؟ ألا يرتكز الهوى في حقيقته على أسس غير موضوعية وغير مبررة؟ وهل يمكن عدّ الهوى “نية إيجابية”؟ ومتى؟

ثالثاً: وقفات منهجية وثقافية مع البرمجيين العرب
في هذا المبحث، نثبت بعض الملاحظات ذات الطابع المنهجي، في سياق تحليلنا النقدي لأسس البرمجة المعرفية والفلسفية والمنهجية والثقافية والنفسية. ونظراً لما للبرمجيين العرب من تأثير كبير على مستقبل البرمجة في عالمنا العربي والإسلامي، فإنه يحسن أن يتوجه خطاب منهجي وثقافي لهؤلاء البرمجيين، مع وجوب تكثيف مفردات ذلك الخطاب حول القضايا الجوهرية، التي من شأنها إثراء الجانب التحليلي النقدي لأهم الأفكار المحورية للبرمجة، على نحو يكمل ما تم إنجازه في المباحث السابقة، ويجلب قدراً أكبر من الأدلة والبراهين، التي تعضد النتائج التي تم الخلوص إليها.

1. عدم اكتراث البرمجيين العرب بالإطار المعرفي والفلسفي!
ثمة ضعف بيّن في اهتمام جملة البرمجيين العرب والمسلمين بالبعد الابستمولوجي (أو ما نسميه بالمعرفيات) للحقول المعرفية، وبالذات الوافدة من خارج نطاق الفكر الإسلامي، وهم -أي جملة البرمجيين- أشتات يتفرقون في الأسباب التي أدت بهم إلى مثل هذا التجاهل الذي لا يُغتفر، غير أنهم يجتمعون في تحمل “الوزر” الثقافي، كلٌ بحسبه، فمنهم من لا يكترث أصلاً بالبعد الفلسفي بـ”النقل الميكانيكي” للأفكار والفلسفات، وفي هذا المسلك سطحية وخطورة بالغة. ويدخل في هذه الفئة أولئك الذين أصيبوا برهاب وإرهاب “الانغلاق الفكري” من جراء تعرضهم لنقد، مشروع وغير مشروع، بسبب تحجرهم الفكري وعدم تبنيهم للرأي الآخر، مما أحدث عندهم ردة فعل عنيفة، أضحوا معها مرحبين “بعضلاتهم” بكل وافد فكري. وطبقة أخرى من البرمجيين ربما يكونون من أولئك الذين لا يرون أصلاً أي اختلاف بين الفكر الإسلامي والفكر الغربي في قضايا كهذه، ونحن بدورنا نطالب هؤلاء بالرد على ما أوردناه من إشكاليات ضخمة في الفضاءات الثقافية والمنهجية والنفسية وإيراد الأدلة والأمثلة.

2. عدم توجيه البرمجيين العرب تفكيرهم نحو الإبداع الفكري في حقلهم!
كما سبق بيانه آنفاً، تزعم البرمجة أنها قادرة على نمذجة السلوك، ومن ذلك نمذجة السلوك الإبداعي للمتميزين من أجل إكسابه الآخرين، ومن تلك النماذج ما يعرف بـ “استراتيجية ديزني للإبداع”. وهذه النمذجة للسلوك وإكسابه الآخرين هو محل تسليم لديّ؛ ولكن بشروط وبيئة ومعايير ومقادير محددة، لم تنل من البرمجة أي اهتمام يذكر، ولم تدخل نسيجها الفلسفي وأطرها الفكرية، بعكس الحال في الحقول المعرفية ذات الصلة بأدبيات الإبداع Creativity والتي راعت بمنهجية علمية تلك العوامل المحددة والمؤثرة في الإبداع إيجاباً وسلباً.
ونتساءل عن مدى إمكانية أن يقوم البرمجيون العرب والمسلمون ببرمجة تفكيرهم وتوجيه بوصلتهم الفكرية نحو الإبداع في حقل البرمجة، وذلك ببلورة وتطوير وإنضاج فلسفات فكرية وتقنيات عملية تتناغم مع منظومتهم الثقافية وإطارهم الحضاري. لماذا لا يتبنون أي استراتيجية -يرونها مناسبة- في الإبداع ليخرجوا من حيز التطبيق الميكانيكي لتطبيقات باندلر، وجريندر، ودليتس، و ديلوزير وأضرابهم إلى فضاءات الأصالة والطلاقة والمرونة التي تقود إلى إبداع أصيل فكراً وروحاً وتطبيقاً، لاسيما في القضايا ذات الصبغة الأيدولوجية، والتي منها على سبيل المثال ما يسمى بـ “البرامج العليا”، ذلك أنها تنطلق وتتأثر بعقيدة الإنسان، والتي تحدد له هدفه الرئيس في الحياة، لتضبط بعد ذلك بوصلة تفكيره، ومتاريس سلوكه، صوب ما يحقق ذلك الهدف. وهنا تطفو عدة أسئلة: هل البرامج العليا كلها بالضرورة تخضع لاعتبارات إنسانية مشتركة؟ ألا توجد برامج عليا مميزة لنا؟ أليس ثمة شيء يميزنا عن غيرنا؟ ألا يفترق المؤمن بالله تعالى رباً وخالقاً ومدبراً ورازقاً وإلهاً عن ذلك الملحد المعاند أو اللادري غير المبالي؟ أما يتميز ذلك الرجل وتلك المرأة اللذان يعيشان همَّ نهضة أمتهما وسيادتها وارتفاع لواء حضارتها، عن أولئك الرعاع الذين لا هَمّ لهم سوى أكلهم وشهواتهم؟ ألا يتوافر العالِم بمقاصد الشريعة الربانية على برامج عليا تميزه عمّن سواه؟ هل يستوي من يغلّب الخوف على الرجاء بشكل مَرَضي أو العكس، مع من يتسم بالوسطية في ذلك؟
أما قضية الوسطية هذه، فتجرني إلى مسألة في غاية الأهمية وهي أن البرامج العليا الخاصة بنا يجب أن ينظر إليها في إطار فلسفة “الوسطية”، أي أننا ننظر إلى طرفين ووسط في معالجتنا للظواهر الإنسانية. ولكي أزيد الأمر وضوحاً أقول إن أهم سمة -في نظري- تميز الإسلام شريعةً وفكراً وممارسةً ما يتصل بقضية وخصلة “الوسطية”، والتي تدفع إلى التحلي بأكبر قدر ممكن من التوازن بين ثنائيات متعارضة أو متضادة أو متقابلة في بعض الأنساق الفلسفية ومنها الفلسفة الغربية كـ الآخرة/الدنيا، العلم/الإيمان، العقل/النص، القدر/الجبر، الرجل/المرأة، وما إلى ذلك.

3. هل تنقصنا “الأنَفَة الثقافية”؟!
هل يظن البرمجيون العربُ والمسلمون، أنه يكفي إيراد بعض آيات القرآن الكريم، ونصوص السُّنة المطهرة، وأبيات من شعرنا العربي الأصيل، للقيام بالواجب المتحتم عليهم صوب الإنتاج الأصيل في كل مباحث البرمجة ذات الصبغة الأيدلوجية. لقد وقفت على بعض النماذج فوجدتها شبيهة بعمليات القص واللزق، فتشابه المعنى الوارد في تطبيقات البرمجة مع أيٍّ من هذه النصوص، يجعل البرمجي يقدم على عملية “حشرها”، وليته لم يفعل؛ إذ إن بعض ذلك يحتوي على تكلّف بيِّن، كما أن العملية برمتها تمارس نوعاً من الخداع والتزييف، خداعاً للذات وتزييفاً للوعي بشروط النهضة ومعاييرها، أشعر البرمجيون بذلك أم لم يشعروا! وهنا نتساءل:
هل ينتظر البرمجيون العرب والمسلمون باندلر و”جماعته” أن يتفضلوا علينا بما عساه يسعفنا في التعرف على خصوصيتنا الفكرية وإطارنا الحضاري في مجالات التطوير والتنمية وغيرها؟
إن هذا الموقف يجسد وضعاً فكرياً مأساوياً، يعكس مظهراً من أمراضنا الفكرية المزمنة، والتي تشير إلى ما يسميه الباحث بـ “الأنَفَة الثقافية”؛ إذ إن انعدامها أو ضعفها، يجعلنا نستمر في فضاء الفكر والتحضر (وهماً)؛ متسلحين بعضلات التفكير الميكانيكي، الذي ينقل لنا الأفكار ولا يصنعها. ويعكس مصطلح “الأنفة الثقافية” مستوى قناعة الباحثين والمثقفين العرب، وقبولهم لتبني نماذج ونظريات ومصطلحات فلسفية ومعرفية، لا تتناغم مع المركّب الحضاري العربي الإسلامي. ويعكف الباحث على تطوير “محكات قياس” لذلك المصطلح تحظى بالصحة والثبات، لتتحقق فائدته المنهجية في الوصف والتفسير للأحداث في المشهد الفكري.
إن جملة متزايدة من الباحثين الغربيين، بدأوا يرفعون شعارات بشكل مباشر أو غير مباشر مثل: “هذه الفكرة قد لا تناسبكم”، “هذه الفلسفة ليست لكم”، “انتبهوا لخصوصيتكم الثقافية”. وفي هذا الصدد أشير إلى بعض مقولات بعض الباحثين الغربيين. يقول شيريف، وليفي (2001) Shiraev & Levy: إن السلوك الإنساني ونماذج التفكير تتشكل وتتطور في بيئات مختلفة، مما يجعلها تختلف من مجموعة ثقافية إلى مجموعة أخرى. ويشاطرهم الرأي في هذا جمع كبير من الباحثين، مِنهم على سبيل المثال: Triandis (1996) , Hofstede (1980) ، بل ذهب تريندز Triandis (1996) إلى اختراع مصطلح “الأعراض الثقافية أو المتلازمات الثقافية” Cultural Syndromes، ويقصد به الأنماط المشتركة من الاتجاهات والمعتقدات والتفضيلات والعادات والقيم التي تنتظم في إطار يؤمن به مجموعة من الناس؛ يتكلمون لغة واحدة ويعيشون في بقعة محددة. وطالب تريندز بوجوب مراعاة التباين في الأنماط الثقافية والحضارية.
كما أن ثمة محاولات بحثية أدت إلى نشوء حركة بحثية تؤمن بمبدأ “التنوع الثقافي/ الحضاري” Multiculturalism، ويلمس القارئ لأدبيات هذه الحركة الوليدة أن لها بعداً سياسياً واضحاً؛ إذ تطالب بمبدأ المساواة بين الحضارات، ووجوب الإقرار أن لا فضل لثقافة أو لحضارة على أخرى، بناء على معايير مسبقة (أو ما يسميها البعض بالمعايير العالمية!)، وإنما هناك تلوّن ثقافي وتنوّع حضاري.بل تعدى الاهتمام بهذه القضية من بحوث تنشر في الدوريات العلمية، إلى بلورة حقول معرفية متكاملة لها فلسفتها ومنهجيتها وأهدافها، وهي حقول تعنى بقضايا تأثير الثقافة والحضارة على السلوك الإنساني، وتفكيره وإداركه، ودوافعه ومشاعره، وآلية التطوير الذاتي والتفاعل الاجتماعي. ومن أبرز هذه الحقول حقل “علم النفس الثقافي المقارن”Cross-Cultural Psychology .
ولكن وعلى الرغم من تلك البحوث الجادة، نشير إلى حتمية تلبسنا بقناعة بل إيمان أكيد بخصوصيتنا الثقافية والحضارية في إطار الانفتاح الواعي على دوائر الحكمة الإنسانية المشتركة. كما أنني أعتقد أنه آن الأوان لكي نجلي ونحدد أبعاد ومجالات وشروط تبني مبدأ “البعد الإنساني المشترك” في فضاء التثاقف مع الآخر. هذا المبدأ الذي “تضخم” كثيراً في عقول بعض المثقفين العرب ووجدانهم، وتماهى مع دوائر الخصوصية، إلى أن وصل الأمر ببعضهم إلى أن ينفي وبطرق مختلفة حتمية الخصوصية ويعدها وصمة عار وتخلف.

الخاتمة:
يمكن لمجموعة من البرمجيين العرب والمسلمين وجملة من الباحثين في العلوم الاجتماعية، أن يبلوروا مشروعاً يؤذن بحدوث حركة تصحيحية واعية ناضجة، تفلح في توجيه بوصلة البرمجة وفق محددات خريطتهم الثقافية، بمنطلقاتها ومسلماتها ومنهجها ونَفِسها. بشرط توافر القناعة الأكيدة بأهمية ووجوب القيام بمثل هذه الحركة التصحيحية داخل البرمجة، مع بذل جهد علمي بحثي مقنن، وفق خطوات منهجيةٍ محكمة، وخطة عملية مدروسة وممرحلة. وهنا يمكننا تسجيل بعض الاقتراحات العملية للبدء بمثل هذا المشروع الكبير من خلال النقاط التالية:
– تبني المنهج العلمي في حقل البرمجة ورفض المنهج النفعي -البرغماتي- أساساً منهجياً، والعمل على تأسيس منهجية علمية في القياس والتجربة والتقييم وما إلى ذلك.
– دعوة أبرز البرمجيين العرب/المسلمين مع جملة من المتخصصين والمهتمين في بعض الفروع المعرفية مثل المتخصصين في العلوم الشرعية وعلوم النفس والاجتماع والتربية، والفلسفة، إلى ندوة تستهدف بلورة مشروع حركة التصحيح. ويمكن أن يطلب من البعض المشاركة في كتابة أوراق بحثية، تكون معيناً على استفزاز إبداع الموجودين في الندوة، وحافزاً لهم على إنضاج الرؤى والأفكار وتطويرها. وعلى هذا الأساس يمكن الإعلان عن تأسيس حركة التصحيح من خلال مؤسسة يتفق على بنيتها وأهدافها وبرامجها وهيكلها، وتعليق برامج التدريب، ريثما يتم الانتهاء من الإطار المنهجي والفكري للحركة التصحيحية للبرمجة، بناءً على خطة علمية وبرنامج زمني محدد.
– توضيح كيفية الانتساب والاشتراك والعضوية بحركة التصحيح بالنسبة للبرمجيين العرب/المسلمين من المدربين والأكاديميين والباحثين والكتّاب وغيرهم، والاستمرار في عقد الندوات البحثية، ووضع خطة عملية لإنتاج مواد وحقائب تدريبية جديدة تتناغم مع فلسفة الحركة (التصحيحية).
– بحث الأمور المتعلقة بالارتباطات الرسمية مع المنظمات والمؤسسات المهتمة بالبرمجة داخل الوطن العربي وخارجه.
وأخيراً آمل أن تسهم هذه المحاولة في التنبيه إلى أهمية تدعيم حركة النقد الثقافي الحضاري، من خلال تكثيف المحاولات الجادة في سبيل رسم الإطار النظري والمفاهيمي والإجرائي لها، ذلك أننا نؤمن بأنها وسيلة -ضمن وسائل أخرى- تمكّن من بلورة الحقول المعرفية، ومفردات التحضر في بوتقة المركّّب الحضاري الإسلامي المنبثق أساساً من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.

 

المصدر: نظرات نقدية للبرمجة اللغوية العصبية: نقد الأسس الفلسفية والمنهجية والثقافية والنفسية،  مجلة إسلامية المعرفة، س 12، العدد 48، 2007